فقه القرآن (لليزدي) جلد 3

اشارة

نام كتاب: فقه القرآن

موضوع: آيات الأحكام

نويسنده: يزدي، محمد

تاريخ وفات مؤلف: ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 4

ناشر: مؤسسه اسماعيليان

تاريخ نشر: 1415 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

محتويات الجزء الثالث من كتاب فقه القرآن

كتاب النكاح 11

المقدمة 13

الفصل الأول- الترغيب في النكاح 15

تعدد الزوجات 17

الفصل الثاني- الالتزام بالعقد 24

عدم مشروعية العقد قبل انقضاء العدة 25

الصداق 26

الفصل الثالث- المتعة أو الزواج المؤقت 28

الفصل الرابع- المحرّمات 31

المحارم 33

المحيض 35

الظهار 37

امهات المؤمنين 38

المكروهات 40

الفصل الخامس- النشوز 41

نتيجة البحث الأول 46

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 8

نتيجة البحث الثاني 47

نتيجة البحث الثالث 49

نتيجة البحث الرابع 50

نتيجة البحث الخامس 51

خاتمة المطاف: ثمرة الزواج (الولد) 52

تذييل: في الفروع المستفادة من الآية (في الخاتمة) 56

كتاب الطلاق 59

الفصل الأول- ما يدل علي كراهية الطلاق و جوازه 61

الطلاق قبل التماس 64

الفصل الثاني: فيمن يقع عنه الطلاق و ما يقع عنه 65

عدد الطلاق 66

الافتداء و البذل 67

الفصل الثالث: شروط التسريح و الرجوع 68

الفصل الرابع: احصاء العدّة 71

حرمة كتمان النطفة 72

احصاء العدة 73

المتوفّي عنها زوجها 75

نتيجة البحث الأول 77

نتيجة البحث الثاني 78

نتيجة البحث الثالث 79

نتيجة البحث الرابع 80

وهم و دفع 81

الظهار 84

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 9

الايلاء 86

نتيجة البحث 87

كتاب التجارة 91

في كرامة الانسان عند اللّه 93

الاسترقاق 98

أركان المعاملة 102

العوضان 107

تعادل الميزان 108

البيع- الربا 110

الاجارة 114

الكتابة 117

الرهن- الضمان 118

الكفالة و الوكالة و الامانة 119

نتيجة الابحاث 120

بحثي الربا و الدّين 121

كتاب القرض 123

نتيجة البحث 129

كتاب العهود و الايمان 131

نقض العهد 138

شروط العهود و كفّارة الحنث 140

خاتمة المطاف 143

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 11

كتاب النكاح

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 13

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام علي محمد و آله الطاهرين

النكاح

المقدمة:

النكاح و الزواج من ضروريات الحياة، و تدعو إليه الفطرة و الخلقة لا في الإنسان فحسب بل في كل ذي حياة من حيوان و نبات، قال تعالي وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الذاريات [51] الآية 49)، و قال أيضا: وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَرٰاتِ جَعَلَ فِيهٰا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.. (الرعد [13] الآية 3). و هذا هو سرّ بقاء النسل و أساس دوام الحياة في الأنواع المختلفة، و قال تعالي مخاطبا شيخ أنبيائه نوحا (علي نبيّنا و آله و عليه السلام): فَإِذٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا وَ فٰارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهٰا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ (المؤمنون [23] الآية 27)، و في آية اخري قال: قُلْنَا احْمِلْ فِيهٰا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.. (هود [11] الآية 40)، و لم يكتف بواحد ممّن خلق و إنما خلق أراده اللّه تعالي لا تبديل لخلقه و فطرة الناس عليها.

و الأمر الي حدّ لعلّه يصح أن يقال: إن الرجل بل الفحل مطلقا بما هو نصف في الخلقة، كما ان المرأة بل الأنثي مطلقا نصف في الخلقة أيضا، لا يتمكّن كل منهما بنفسه علي بقاء نوعه و دوام حياته و حياة غيره أيضا، و بموتها يموت النوع و يزول، و هما معا نوع واحد كانسان واحد له حياة و دوام أولا، و لهما عيشة و لذّة ثانيا. فان إرادة اللّه تعالي و قدرته تفعل ما تشاء في نكاحهما و زواجهما من توليد الذكر أو الأنثي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 14

منهما علي نسبة خاصة لازمة مع جهلهما أو غفلتهما عنها، و هذا ما أثبتته

العلوم الحديثة أيضا.

قال تعالي:

وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. (الروم [30] الآية 21)

و قال أيضا:

وَ اللّٰهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبٰاتِ … (النحل [61] الآية 72)

و قال أيضا:

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحٰامِ كَيْفَ يَشٰاءُ … (آل عمران [3] الآية 6)

ثم إن العمل الطبيعي الضامن للبقاء و اللازم للدوام يعمل به من قبل غير الانسان أيضا علي حدود و قوانين تكوينية مجبولة عليها بلا افتقار الي اعتبار حكم، لعدم تخلّف و انحراف، بل لعدم إمكانه. و أما في الانسان المختار من بين الموجودات المتميز عنهم بكل أعماله، الظلوم الجهول بعد إمكان انحرافه عن الفطرة و احتمال صدور الزلّة عنه، فقد جعل اللّه له حدودا و شرائع و بيّن له ما لم يكن يعلم تحفّظا عليها و تتميما للنعمة.

و الحاصل: إن النكاح مسألة طبيعية غريزية عقلائية مشروعة بنفسها عند كل قوم و ملّة، و له أحكام و حدود، و التخلّف عنها سفاح و فاحشة: أرشد إليه و الي حدوده و خصوصياته الشارع المقدّس توسعة و تضييقا، فالأصل الأوّلي فيه الجواز و الإباحة حتي يثبت الخلاف، و الآيات المباركة في الكتاب العزيز التي تعني بهذا الباب ستذكر خلال فصول إن شاء اللّه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 15

الفصل الأول: الترغيب في النكاح

اشارة

نشرع هذا الفصل فيما يتعلّق في الآيات المرغّبة لأصل النكاح الآمرة به مع الردّ علي من يمتنع عنه متعذّرا بأمور أو متخيّلا لها، و فيه آيات:

الاولي- قوله تعالي:

وَ أَنْكِحُوا الْأَيٰاميٰ مِنْكُمْ وَ الصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اللّٰهُ

مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ* وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لٰا يَجِدُونَ نِكٰاحاً حَتّٰي يُغْنِيَهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتٰابَ مِمّٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ فَكٰاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مٰالِ اللّٰهِ الَّذِي آتٰاكُمْ وَ لٰا تُكْرِهُوا فَتَيٰاتِكُمْ عَلَي الْبِغٰاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللّٰهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرٰاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (النور [24] الآية 32 و 33).

الآية المباركة تأمر العزّاب الذين يعيشون فرادي- سواء كان رجلا لا زوجة له أو امرأة لا زوج لها- «الأيامي» بالنكاح، و ترشد الي لزوم الإقدام لرفع تلك الضرورة الطبيعية التكوينية و تأمينها؛ و هو ما يدركه العقل، إلا ان الآية الكريمة ترشد الي مصلحة أخري أيضا و هي اختيار الشريك الصالح للحياة و العون للمعيشة (زوجا و زوجة)، فإنّ الصلاح هو أساس الفلاح في هناءة العيش و صفوة الاستمتاع بالزواج.

و حيث أن الإهمال يورث الفساد و الهلاك، لذا فقد ردّت الآية الكريمة علي التسويف فيه و الاستنكاف عنه، و علي من يتخيّل أنه سبب الفقر و شبهه، فقد ردّت الآية الكريمة علي ذلك كلّه و اعتبرته سوء ظنّ باللّه العظيم، فانه تعالي يغنيهم من فضله الواسع و هو عليم بعباده و بمن يستحق الفضل و الغني.

و حيث ان الغريزة الجنسية الطبيعية لو لم تجد ما تسكن إليه، تعلو و تطغي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 16

علي نفس الانسان فتسلّط علي إدراكاتها العقلية و تحكم عليها- أعاذنا اللّه منها- فقد أمر اللّه تعالي الذين لا يجدون نكاحا- و في النكرة اشارة الي نفي جميع الأقسام المباحة من الدائم و المنقطع و الملك أيضا، فانه بمعناه اللغوي لا العقد- أمرهم سبحانه بالاستعفاف و التحفّظ

حتي يغنيهم اللّه من فضله، و يسبب لهم الخير من الزواج و ينجوا من الهلكة، طبعا، من خلال مجاريه و أسبابه، بعد السعي و العمل بما في عهدته علي الطرق الشرعية و الطلب الجميل من مسبب الأسباب و هو اللّه تعالي الذي بيده مقاليد السماوات و الأرض.

ثم تأمر الآية المباركة الذين يبتغون المكاتبة مع أوليائهم و مالكيهم (أي الأيامي) تحريرا لأنفسهم، فيعملون لغير مالكهم و يعطونه ما يحصلون عليه من أجرة اشتراء لأنفسهم علي أيّ وجه يتفقان عليه من التحرّر سواء كان بنسبة معيّنة أو تحرر كلي بعد أداء جميع مال المكاتبة، هذا.. إن علم فيهم خيرا عند تحريرهم و وجود قدرة كافية فيهم علي تكسّب الحلال دون إكراههنّ علي البغاء.

ثم تأمر الآية الكريمة أيضا بإيتائهم الأيامي شيئا من الأموال التي آتاها اللّه تعالي فانهم الضعفاء لا بدّ من الترحّم و العطف عليهم، و ظاهر الأمر في المقامين (في المكاتبة و الايتاء) الوجوب إلّا أن مقتضي إطلاق الملكية هو الجواز راجحا مؤكّدا في الأموال، و مقتضي السياق الاستحباب في الثاني (الإيتاء) كرامة و توسعة و فضلا عليهم، و كيف كان فالآية الكريمة تدلّ علي صحة المكاتبة و معاملة المولي مع عبده أيضا.

و أخيرا تنهي الآية الكريمة عمّا يوجب استدراج الإماء بل الفتيات مطلقا الي السفاح و البغاء، و ذلك بطلب المال منهنّ بمكاتبة سقيمة بينهم علي شروط كانت دارجة في سالف الزمان، أو ابتغاء ما يوجب ذلك عرض الدنيا، أو علي شروط تكون كالتي في زماننا هذا، و القارئ الكريم بعد معرفة تطورات الزمان يعلم و يعرف ما الذي تنهي الآية الكريمة عنه من غير اختصاص بزمان أو صراحة بشي ء و ليس

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3،

ص: 17

علينا التفصيل «1».

و لعل ذلك يعمّ الفتيان أيضا، و الآية الكريمة ترشد الي حرمة كل ما ينتهي الي البغاء من الطرفين، و الكتابة علي أخذ المال من أيّ طريق كان في طرف الإماء مصداق للحرمة أيضا و العقل يرشد إليه مسبقا، فالحرمة شرعية و عقلية أيضا.

تعدّد الزوجات

الثانية- قوله تعالي:

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا تُقْسِطُوا فِي الْيَتٰاميٰ فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ مَثْنيٰ وَ ثُلٰاثَ وَ رُبٰاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنيٰ أَلّٰا تَعُولُوا. (النساء [4] الآية 3)

تأمر الآية الكريمة بنكاح الطيّبات من النساء ناظرة الي مشروع آخر من التحديد فارغة عن أصل الجواز و هو أنهنّ محللات طيّبات مثني و ثلاث و رباع مع رعاية العدالة بينهنّ و إن خفتم أن لا تعدلوا، فكيف اذا لم تعدلوا بينهنّ، فاكتفوا بواحدة حتي لا تكونوا ممّن طغي و ظلم، فان التعفف و الاقتصار علي واحدة أو بملك اليمين أدني و أقرب من أن لا تعولوا و تكونوا من الظالمين علي أنفسكم و أزواجكم «2».

______________________________

(1)- و نحن نخجل من ذكر أنواع ما عملته الحكومة الجائرة البهلوية فيهنّ من إجبارهنّ علي الاشتراك في المعسكرات و المنظّمات و استخدامهنّ في الفنادق و المضيّقات الخاصة شارطة عليهن إطلاق أنفسهن و عرضها علي الضيوف الأجانب من الأوروبيين و الأمريكيين و غيرهم.

(2)- و أما كون تفريع الأمر بنكاحهنّ علي خوف عدم التقسيط في اليتامي غير ظاهر الترتيب، فهو بحث تفسيري ذكر فيه وجوه من أن المراد منه اليتامي اللاتي تريدون أن تنكحوهنّ لا مطلقا، و النساء غيرهنّ فان خفتم أن لا تقسطوا بين اليتامي إن نكحتموهن فانكحوا من غيرهنّ، كما قيل؛ و ضعف ذلك ظاهر فانه

لا دخل للعدالة في نكاح غير اليتامي من النساء مع بعد نكاح المتعدد من اليتامي و لا وجه للتقييد.

و يمكن أن يقال: إن سياق الآيات في الأموال و ردّها الي مالكيها فالمعني اذا خفتم أن لا تقسطوا في ردّ أموال اليتامي فتبدلوا الخبيث بالطيب من المال فانكحوا ما طاب لكم من النساء متعددا تحصيلا للسعة في المعيشة كما أشار إليه الحديث، و تمام الكلام في محله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 18

هذا.. و لكن التأمل في التعبير يعطي جواز تعدد الزوجات و صحة نكاحهنّ من غير اشتراط الحل و الجواز بالعدالة بينهنّ فانه أشير إليها مفهوما بذكر المقابل و ان الخائف علي عدم العدالة، عليه الاقتصار بواحدة لئلا يكون من الظالمين، و بعبارة أخري فرق بين الاشتراط و تعليق الحكم بأن يقال: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني و ثلاث و رباع إن كنتم عادلين بينهنّ ناظرين إليهنّ علي السواء، و بين ما وضّح من البيان الكريم البليغ، و التعليق يفيد عدم المشروط عند عدم الشرط، و البيان لا يعطي ذلك. نعم يشير الي أن المؤمن الكامل كذلك، فانه أبعد عن التعالي المذموم أخلاقيا مع بعده عن المحرّمات شرعا.

و عليه فلا إشكال في صحة نكاح المتعدد و حلّية الاستمتاع لمن لا يعدل بينهنّ أيضا، و إن كان ذلك ظلما و تعاليا مذموما بل حراما في بعض مراحله إلّا أن المحرّم غير المحلل مصداقا مع أن الحق صحته في وحدة المصداق لو فرض أيضا، فان مقام تعلّق الحكم غير مقام الانطباق و الامتثال علي ما حقق في الأصول، و قد شيّد أركان المسألة الاستاذ الأعظم المرجع الأعلي و الملجأ الأوحد آية اللّه العظمي الإمام الخميني (حفظه

اللّه تعالي و رعاه و أعطاه سؤله و مناه … ).

اذا عرفت ذلك تعلم بطلان الاستدلال علي حرمة تعدد الزوجات و عدم صحته في الاسلام كما قيل «1» بأن القرآن الكريم اشترط الجواز بالعدالة بينهنّ في آية، و صرّح بعدم إمكان تحقق ذلك الشرط في الأخري، قال تعالي: … وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ (النساء [4] الآية 129) فأفاد بهما عدم الجواز بألطف بيان.

و وجه البطلان ان الآية الكريمة الثانية واقعة في آخر بحث الاستفتاء الحاصل عن الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) في النساء و ما حولهنّ من مسائل شتي التي ينتهي منها الي

______________________________

(1)- كما عن بعض أساتذة الأزهر خلال كلماته علي ما في تاريخ قوانين المدنية، و عن الدكتور مصطفي الرافعي في كتابه: (الاسلام نظام انساني).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 19

مشاجرات تقع كثيرا بالطبع بين الأزواج و في كل أسرة، و لا يخلو بيت منها في الجملة، و لزوم الإرشاد الي الإصلاح، و ان الصلح خير، و أحضرت الأنفس الشحّ و البخل، ففي السياق تقول: لن تستطيعوا أيّها المؤمنون أن تعدلوا بين النساء- و المخاطب العموم ممّن له زوجة واحدة علي الغلبة من غير اختصاص بمن له زوجات ليرتبط بالبحث مع صراحة التفريع علي ذلك بقوله تعالي: فَلٰا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ.

مع انه لا تهافت أيضا لو سلّم الاختصاص بتعدّد الزوجات فان الشرط الممكن للعدالة في العمل و ظواهر الأمور حال تقسيم تعاطي المعيشة من المأكل و الملبس و المسكن و غير ذلك.. و من غير الممكن حصول الحبّ في القلب المشار إليه بكلمة «لن» كما هو ظاهر «1».

و من المعلوم أن ذكر شرط غير ممكن لبيان

عدم الجواز و حكم الحرمة في مثل هذا المقام و لا سيما في كلامين يشبهان الأكل من القفا، بعيد جدّا عن سموّ مستوي كتاب اللّه العزيز و هو أفصح كلام و أكمل بيان.

ثم ان قوله تعالي: أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ عطفا علي واحدة يكتفي بنكاحها من النساء يدلّ علي جواز الاستمتاع بها و تأمين ذلك الافتقار من ملك اليمين فان للمالك التصرّف في ملكه كيف يشاء حسب ما يتوقع من المتاع و السلعة عقلائيا و ذلك قسم مستقل قبال النكاح و الزواج و سيأتي الكلام عنه إن شاء اللّه.

الثالثة- قوله تعالي:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلٰاتِهِمْ خٰاشِعُونَ* وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكٰاةِ فٰاعِلُونَ* وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ* إِلّٰا عَليٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ

______________________________

(1)- راجع بحث «النشوز» من الكتاب، و قد صرّحت بذلك روايات الباب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 20

فَمَنِ ابْتَغيٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ العٰادُونَ.

(المؤمنون [23] الآية 7) و (المعارج [70] الآية 29- 31)

الآيات الكريمة تصف المفلحين من المؤمنين بأنهم الذين يحفظون فروجهم علي حدّ الضرورة، و الوجوب تلو الخشوع في الصلاة «1»، و الإعراض عن اللغو و إيتاء الزكاة الواجبة، و لعلّ السياق في سورة المعارج آكد أكثر.

و بذلك أفادت الآيات الكريمة وجوب حفظ الفرج مطلقا و حرمة تركه أيضا، و حيث ان الإطلاق ينافي الافتقار الطبيعي الغريزي و لا يساعد طريق الخلقة و سبيل الفطرة التي لا تبديل لها من بقاء النوع، استثنت منه بقوله تعالي: إِلّٰا عَليٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ ردّا علي تاركي النكاح مطلقا كما عن بعض الهنود و ما في المسيحية المحرّفة، و

إثباتا لموارد الجواز لأن النفي كان للتحديد و بيان موارد الإثبات، فينحصر سبيل تأمين ذلك الافتقار شرعا بموردين فقط:

الأول: الزوجية، فيجوز استمتاع كل من الزوجين بالآخر بأيّ وجه كان، حرّين كانا أو مملوكين أو مختلفين، فانهم غير ملومين في ذلك.

الثاني: الملكية في ناحية الرجل فله الاستمتاع من أمته التي هي بملك اليمين، و لها ذلك منه طبعا بأيّ وجه كان كالزوجية، دون المرأة فليس لها الاستمتاع من عبدها بالملك فانه في ناحية الرجل يصدق التصرّف في المستمتع منها و للمالك أن يتصرّف في ملكه كيف يشاء عقلائيا، و أما من ناحية النساء فليس تصرّفا منها فيه، فان الاستمتاع فيهنّ من حيث القبول و الانفعال و الاستسلام، و الرجال هم القوّامون علي النساء الواردون عليهنّ، و القبول و الانفعال ليس بتصرّف إلّا في نفسها فليس للحرّة الاستمتاع من عبدها بالملكية و ان كان لها التصرّف فيه بسائر الأعمال العقلائية.

______________________________

(1)- قد سبق في كتاب الصلاة ان الآية الكريمة تدلّ علي وجوب الخشوع مهما أمكن و هو حضور القلب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 21

و الحاصل: إن الاستمتاع في المقام هو تصرّفه فيها لا تصرّفها فيه عقلائيا، و أما في سائر الأعمال استخدامها إياه تصرّف لها فيه و للمالك أن يتصرّف في ملكه كيف يشاء عقلائيا «1».

و من هذا عرفت أن عبدها لها من هذه الجهة كالأجنبيّ، و عليها التستر منه، و ليس له لمسها و النظر إليها أيضا كما هو ظاهر، فلا يتوهّم جوازهما في الاختلاء أيضا، فكيف بذات البعل.

و لا يقال: إن قوله تعالي: وَ لٰا مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ في تعداد المحارم الذين يجوز للمرأة النظر إليهم، و بالعكس انه يعمّ العبد و الأمة في قوله تعالي:

لٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبٰائِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰائِهِنَّ وَ لٰا إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ أَخَوٰاتِهِنَّ وَ لٰا نِسٰائِهِنَّ وَ لٰا مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ … (الاحزاب [33] الآية 55) فيجوز للسيدة النظر الي عبدها و بالعكس و لو كانت ذات بعل بحكم الإطلاق.

فانه يقال: لو كان كذلك لكان الأنسب ذكر ملك اليمين بعد: «الرجال» و قبل كلمة: «و لا نسائهنّ» و نفس ذكره بعدها يشير الي الاختصاص بالأمة، و لا تكرار مع نسائهنّ فانهنّ المسلمات فقط بمقتضي الإضافة، و أما ما ملكت أيمانهنّ من الإماء يعمّ الكافرات كما هو ظاهر، و كيف يرضي الشارع المقدّس بأن ينظر الرجل المملوك الي جسد مالكته و سيدته التي هي ذات بعل كما في الأم و الأخت بلا ريبة إلّا أن يحسب حيوانا لا نراه، و كذلك البحث في آية الغض (النور [24] الآية 31)، أضف الي ذلك قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ …

(النور [24] الآية 58)، و سيأتي الكلام فيه عند بحث الحجاب إن شاء اللّه «2».

______________________________

(1)- و أما مسألة اعتبار مالكية انسان لإنسان و مملوكيته له كالسلعة فهي بحث حقوقي علمي ليس هنا محله، و لا غرو فيها بعد معرفة معني الملكية و حدود جواز تصرّف المالك في ملكه و ما في المقام من تحديدات كثيرة.

(2)- في كتاب: «المجتمع و الآداب» الجزء الرابع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 22

ثم ان الآيات الكريمة أكّدت وجوب حفظ الفرج و التحفّظ عليه، و انحصار عدم الملامة بتركه في الأمرين: الزوجية و الملكية بوجه عرفته بقوله تعالي: فَمَنِ ابْتَغيٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ العٰادُونَ بأنفسهم الظالمون بتعدّيهم و عصيانهم:

وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰهِ فَأُولٰئِكَ

هُمُ الظّٰالِمُونَ (البقرة [2] الآية 229)، وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا وَ لَهُ عَذٰابٌ مُهِينٌ.

(النساء [4] الآية 14)

و بذلك تدلّ الآية الكريمة علي حرمة اللواط و المساحقة و المجامعة مع حيوان أو ميّت- و لو كانت زوجته لانقطاعها عنه بالموت- أو مع المجسّم الذي يشبه الرجل أو المرأة القابل للانعطاف المصنوع من موادّ بلاستيكية أو غيرها، و كذا حرمة الاستمناء بأيّ وجه كان، سواء باليد أو بالنظر الي صورة، أو بالتخيّل أو غيرها، المؤدية إليه، فان ذلك كلّه وراء الزواج و الملكية، و ابتغاؤها عدوان و ظلم محرّم.

كما تدلّ الآية المباركة علي حرمة كشف العورة، و النظر الي عورة الغير، و لو كان مماثلا أو من المحارم، فان ذلك ترك لحفظ الفرج الواجب حفظه و ستره.

و لا يقال: إن دلالة الآية الكريمة علي حرمة اللواط و المساحقة لأنهما يستلزمان ترك حفظ الفرج و انكشافه لدي الغير و عليه تمام الحرمة.. و أما في غيرهما من مجامعة الحيوان أو الميّت و كذلك الاستمناء بأقسامه لا سيما بالنظر و التخيّل فلا دلالة فيها علي حرمتهما لعدم كشف العورة علي الغير المحرم فلا ينافي التحفّظ، و لا بدّ من التماس دليل آخر علي الحرمة فيها، فانه يقال: إن تعبير الآية الكريمة لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ، لا حافظون فروجهم عن الغير، فالواجب نفس التحفّظ و المنع عن التمايلات و الشهوات النفسية و القيام بتلك الأعمال التي تنافي الحفظ و التحفّظ و المنع و إن لم يصدق كشفه علي الغير، فالآية الكريمة تدلّ علي حرمتها أيضا.

و يستفاد من عطف: مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ علي: أَزْوٰاجِهِمْ بحرف: «أو»:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 23

أنّ الزوجية لا تقع

علي الملكية و انهما لا يجتمعان، و إن كانت تقع في المملوك أيضا، فلا يصح للمالك أن يكون زوجا لمملوكته، و لا زوجة لمملوكها، و إن كان يصح تزويج مملوكه بالحرّ أو الرق، كما يصح له إجازة تزويج المملوك نفسه أو لنفسه فضوليا مع حرّ أو رق كما فصّل في محلّه.

و لعلّ الوجه هو أن النكاح يشبه البيع من جهات و هو عقد و عهد بين الزوجين و ليس ببيع كما سيأتي بيانه، فكأن الزوج و الزوجة متبايعان، و المهر و البضع ثمن و مثمن مع عدم التعيّن في طرف الزوجة، و لا معني لمبادلة الانسان مع ملكه- بنفس رغبات ذلك الملك- بملكه الآخر كما لا معني لتبديل ملك مع ملك في الملكية لمالك واحد، و لو قلنا بمالكية الرقيق فان العبد و ما في يده ملك لمولاه، و النكاح و عقده بين المالك و المملوك يرجع الي ذلك كما لا يخفي.

نعم.. لا يبعد الجواز بين السيدة و عبدها علي ما عرفته من قبل، فانها لا تملك الاستمتاع به فيصح بالعقد، و إطلاق عدم الجمع بين الزوجية و الملكية باق علي حاله من غير تقييد بمفاد: «أو».

خاتمة في الآية الكريمة:

قد عرفت دلالة الآية الكريمة علي انحصار جواز الاستمتاع و ترك حفظ الفرج بأمرين: الزوجية و الملكية، عينا و منفعة أو انتفاعا كتحليل الأمة، و أما الهبة بأن تهب المرأة نفسها لرجل من غير زواج فلا يكون، و لم يكن إلّا للنبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، قال تعالي- عطفا علي المحللات:.. وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهٰا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرٰادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهٰا خٰالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (الاحزاب [33] الآية 50)، و كان ذلك

لحكمة خاصة في وقت خاص مع احتمال تحقق النكاح بمعناه: العقد و التعاهد بعد أن أوهبت نفسها له (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، و قبل النكاح بمعني التعلّق و الدخول فلا نقض للانحصار، مع ان الهبة تمليك للعين، و لا تتعلّق بالمنفعة كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 24

و ليس للحرّة تمليك نفسها ليلحق جواز الاستمتاع بالملك، كما لا يصح تملّك إنسان لإنسان آخر بذلك.

الفصل الثاني: الالتزام بالعقد في الزواج

اشارة

ما يدلّ علي أن النكاح أمر لا يتحقق إلّا بالتعاهد و العقد بين الزوجين ليثبت علي كل منهما بذلك أحكام قبال التزام الآخر، و ثبوت أحكام له أيضا، و ما لم يعقد ذلك التعاهد و الالتزام بين الطرفين لا تتحقق تلك الرابطة المجوّزة للاستمتاع.

و أما الرضا الباطني و التقاول بين الطرفين فليسا بعقد و لا يكفيان عنه، و كما أنه لا يتحقق إلّا بعقد له أحكام، فهو لا ينحل و لا ينفصل إلّا بسبب، و له أحكام أيضا، و بعد إجرائه تثبت أحكام أخري.

فهنا ملتزمان: موجب و قابل، و هما ركنان، و في البين شي ء يعقد عليه، فتتحقق في الاعتبار الزوجية، و التزامهما: كون الرجل زوجا للمرأة و المرأة زوجة له، فيخرجان عن الانفراد في الاعتبار و العين، و في المقام أمر آخر يتعلّق الالتزام الزوجي به و هو الصداق و النحلة قبال تسلّم المرأة، و لكلّ من تلك الأمور أحكام تتعرض لها الآيات المباركة في كتاب النكاح و الطلاق، و كيف كان ففي الفصل آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسٰاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللّٰهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لٰكِنْ لٰا تُوٰاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلّٰا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا

مَعْرُوفاً وَ لٰا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكٰاحِ حَتّٰي يَبْلُغَ الْكِتٰابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 235)

الآية الكريمة و إن كان سياقها بيان النساء اللاتي توفّي عنهنّ أزواجهنّ،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 25

و عليهنّ أن يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً «1»، و أنه لا جناح عليهنّ بعد بلوغ الأجل و انقضاء العدّة ان يفعلن في أنفسهنّ ما هو المتعارف ممّا يدل علي التمايل الي الزواج المصرّح به في الآية الكريمة السابقة، إلّا أنها تعني الرجل في تثبيت و إمضاء ما هو المتعارف أيضا من الخطبة، و إظهار الرغبة في النساء بوجه معروف بين الناس علي اختلاف آدابهم، ثم تصرّح الآية الكريمة بأنّه لا جناح علي المكنون في النفس من حبّ النساء و من العلاقة بامرأة يريد الزواج منها ما لم ينته الي التواعد معها سرّا عن أهلها. نعم لا بأس بالمقاولة العادية معها سرّا عن أهلها استطلاعا علي نظرها و رعاية لجانبها، و لا سيما في المبحوث عنها، و هي المتوفّي عنها زوجها المتوقّع انقضاء عدّتها، فالتزويج معها، و لا يبعد الاختصاص بها.

عدم مشروعية العقد قبل انقضاء العدّة

ثم بعد ذلك كلّه تنهي الآية الكريمة صراحة عن عزم عقدة النكاح قبل أن ينتهي الكتاب أجله و تنقضي العدّة للزوجة المتوفّي عنها زوجها فتخرج عنها، فتدلّ الآية الكريمة علي ان التقاول و التراضي سرّا كان أو علنا غير انعقاد ذلك العزم، و عقدة النكاح غيرهما، فالنكاح عقد يعزم، و عزم يعقد عليه، لا بدّ أن لا يكون في العدّة، فلا زوجيّة قبل العقد و لو مع التراضي، فالآية الكريمة و ان لم تكن في مقام بيان لزوم العقد

في تحقق النكاح إلّا أنها تعطيه بوجه أصرح من الفراغ عن لزوم ذلك و ان هناك عقدا يعزم و عزما يعقد، إلّا أنه لا بدّ و أن لا يكون في العدّة، و لا بأس بمقدماته قبل انقضائها من التقاول و التراضي و التوافق حسب الحدود الشرعية.

ثم ان العقد الذي أرشدت إليه الآية الكريمة في المقام هو الموجود في مختلف المجتمعات حتي الذين لا يعتقدون بدين و شريعة أيضا، فان السفاح لديهم

______________________________

(1)- كما سيأتي في بحث العدة ان شاء اللّه تعالي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 26

غير النكاح، و انه يتوقّف تحققه علي توافق مظهر بلفظ صريح أو إمضاء و كتابة علي اختلاف الآداب المتعارفة؛ و في الاسلام باللفظ فقط.

و العقد هذا علي الأصل لا يكون إلّا بيد الطرفين من الزوج و الزوجة و لو بالوكالة أو بواسطة وليّهما علي ضوء أدلّة الولاية- كما وضّح «1».

قال تعالي:

.. أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ. (البقرة [2] الآية 237)

و سيأتي الكلام عنه في كتاب الطلاق إن شاء اللّه تعالي.

ثم إنّ العقد المذكور لا يعزم و لا يستحكم إلّا بإنشاء واضح و بيان صريح من لفظ: النكاح و الزواج و ما يقوم مقامهما علي اختلاف الألسن و اللغات، و لا تكفي الألفاظ المشتركة، و لا الكناية أو الاشارة الي قرار ترتبط به السعادة الفردية و الاجتماعية، فلا ينعقد بسهولة و لا ينحلّ بتخيّل.

و أما توهّم جواز انعقاده بلفظ الهبة كما في زواج النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فمدفوع- بما عرفت- من أنه لو كان قبال النكاح و الملك لكان مختصا بنفسه الشريفة من دون المؤمنين كما عليه صراحة الآية الكريمة.

الصداق

الثانية- قوله تعالي:

وَ آتُوا النِّسٰاءَ صَدُقٰاتِهِنَّ نِحْلَةً

فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً. (النساء [4] الآية 4)

تأمر الآية الكريمة بإيتاء النساء صدقاتهنّ و أنه لا يحل أكلها إلّا اذا طابت أنفسهنّ بها أو بشي ء منها، فان الصداق و المهر و هو المال الذي تملكه الزوجة قبال

______________________________

(1)- في كتاب: «الولاية و الحكومة» في الجزء الثاني.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 27

تملّك الزوج الاستمتاع بها، مقدّرا كان ذلك المال و مسمّي أو مثلا يشبه الثمن في البيع، و الزوجان يشبهان المتعاملين فيتوقّف تمامية العقد و صحته علي المهر، و يجب عليه ردّه إليها لدي المطالبة، و لها ذلك في كل وقت حتي قبل تسليم نفسها إليه، كما عليها ذلك في كل وقت طلب منها، كل ذلك بمقتضي العقد، و تشير الي ذلك (أي الي الصداق و النحلة) آيات الطلاق أيضا مثل قوله تعالي:.. وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مٰا فَرَضْتُمْ..، كما سيأتي بيانها إن شاء اللّه.

و عليه فأكل الزوج للمهر (الصداق) بلا طيب من نفس زوجته أكل للمال بالباطل، و مع طيب نفسها فهو هني ء مري ء يؤكّد هناءته البضع بلا عوض.

و كذلك البحث في أجورهنّ في المنقطع من النكاح لقوله تعالي:

«فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً..» (النساء [4] الآية 24)، كما سيأتي الكلام عنه إن شاء اللّه.

الثالثة- قوله تعالي:

قٰالَتْ إِحْدٰاهُمٰا يٰا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ* قٰالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَي ابْنَتَيَّ هٰاتَيْنِ عَليٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمٰانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ مٰا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شٰاءَ اللّٰهُ مِنَ الصّٰالِحِينَ* قٰالَ ذٰلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلٰا عُدْوٰانَ عَلَيَّ وَ اللّٰهُ عَليٰ مٰا نَقُولُ وَكِيلٌ*

فَلَمّٰا قَضيٰ مُوسَي الْأَجَلَ وَ سٰارَ بِأَهْلِهِ … (القصص [28] الآيات 26- 29)

تقصّ الآية الكريمة إنكاح شعيب النبي (عليه السّلام) ابنته من موسي النبيّ (عليه السّلام) و قبول عمله ثماني حجج أجرة و عوضا له، و الحكاية تعطي أمورا:

الأول: جواز خطبة المرأة للرجل، فقد قالت إحداهما: يا أبت استأجره؛ إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين، و توصيفها إيّاه في المقام يشعر بذلك و لا بأس به من حيث هو.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 28

الثاني: لزوم وجود العوض و المهر في النكاح، و ذلك أمر عقلائيّ.

الثالث: إن المهر في النكاح لا بدّ و أن يكون مالا يصحّ أن يبذل بإزائه المال كائنا ما كان، حتي العمل في المستقبل، و لو تعليم سورة من القرآن كما ورد في السنة المباركة، و المهر هذا لا بدّ و أن يكون معيّنا مضبوطا كثماني سنوات و إتمام العشر من عنده و التعيين، ذلك لا بدّ منه حتي بين المعيّنين فان الترديد في قوله: إِحْدَي ابْنَتَيَّ هٰاتَيْنِ و كذلك في أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ لم يكن إلّا في مقام المقاولة قبل عزم عقدة النكاح و إحكام عهدته كما صرّح به كلامه: أُرِيدُ، و أما التي جعلت منكوحة و ما جعل مهرا كان معيّنا معلوما لقوله تعالي: فَلَمّٰا قَضيٰ مُوسَي الْأَجَلَ، و ما قضاه كان مشخّصا، و الترديد في مقام المقاولة لا يضرّ بعد الجزم و البتّ و التعيين في أطراف العقد، و أما عدم التقدير في طرف البضع طبيعي و لذلك يشبه النكاح بالبيع و ليس ببيع.

و من المعلوم أن الصداق للزوجة كما ان البضع للزوج، و ظهور قول شعيب (عليه السّلام): عَليٰ أَنْ تَأْجُرَنِي في وقوع الأجرة له لا لابنته مندفع بمقام

المقاولة و ولايته عليها، و في العمل تقع لها أو له بمصالحتها لأبيها، و لا وجه لصيرورتها له ابتداء.

الفصل الثالث: المتعة أو الزواج المؤقت

قد عرفت ان جواز الاستمتاع و ترك التحصّن و حفظ الفرج ينحصر في أمرين، و هما: النكاح و ملك اليمين، ثم ان النكاح قسمان، هما: دائم و منقطع، علي ما يصرّح به قوله تعالي:

… وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوٰالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 29

فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا تَرٰاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً. (النساء [4] الآية 24)

فان تعبير الاستمتاع و أداء الأجرة متفرّعا علي حلّية ما وراء المحرّمات المذكورات، و الابتغاء بالأموال محصنين تاركين السفاح قبال النكاح و الصداق في الآيات الكريمة السابقة، و ملك اليمين فيها و في اللاحقة «1»، مع العلم بحرمة الاستمتاع في غيرهما، يفيد صريحا أن ذلك قسم من النكاح يطلق علي صداقه الأجرة و علي عقده المتعة، و هذا هو النكاح المنقطع المؤقت، و في بعض القراءات بعد كلمة: «منهنّ»: الي أجل مسمّي «2»، مضافا الي ثبوت ذلك بالسنّة المباركة العملية و القولية في زمن رسول اللّه (عليه السّلام) و لا سيما عند فتح مكة «3»، و لا يعبأ بقول من لا ضمان لرأيه و لا وقع لاجتهاده قبال النص.

و بعبارة أخري: آيات سورة النساء الباحثة عن النكاح و أحكامه و فروعه من أول الأمر من قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا وَ بَثَّ مِنْهُمٰا رِجٰالًا كَثِيراً وَ نِسٰاءً الي قوله: فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ مَثْنيٰ وَ ثُلٰاثَ وَ رُبٰاعَ فَإِنْ

خِفْتُمْ أَلّٰا تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنيٰ أَلّٰا تَعُولُوا وَ آتُوا النِّسٰاءَ صَدُقٰاتِهِنَّ نِحْلَةً.

ثم آيات ذكرت فروعا أخري ترتبط بالصداق و الروابط الزوجية و التوارث بينهما و فروعها الي قوله تعالي: وَ لٰا تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ، و ذكر

______________________________

(1)- من قوله تعالي: «فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ..» كما سيأتي الكلام فيها إن شاء اللّه.

(2)- كما عن أبي بن كعب و عبد اللّه بن عباس و سعيد بن جبير و غيرهم.

(3) صحيح مسلم عن عبد اللّه بن مسعود.. ثم رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب الي أجل.. و عن جابر بن عبد اللّه، قال: كنّا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق لأيام علي عهد رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و أبي بكر حتي نهي عنها عمر في شأن عمرو بن حريث، و أما نسخها من ناحية الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فمختلف فيه لديهم أيضا، فراجع مختصر صحيح مسلم ج ص 210.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 30

محرّمات أخري بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ … الي قوله: وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ ففي مثل هذا السياق الذي تكون الآيات بصدد بيان تمام أقسام الحلال و الحرام من النكاح و فروعه تبيّن تفريع الاستمتاع بالأجرة و الابتغاء بالأموال مع لزوم التحصّن و ترك السفاح، و هو صريح في تقسيم التحصّن الي النكاح و الاستمتاع و الملك، و الثاني هو النكاح المؤقّت لصدق الأجرة قبال الصداق نحلة، و لا ينافي ذلك إطلاق الأجرة في نكاح المؤمنات المهاجرات الأعم من الدائم و المنقطع، قال تعالي:.. وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذٰا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.. (الممتحنة

[60] الآية 10)، كما لا ينافي قوله تعالي: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (النساء [4] الآية 25) الدال علي صحة نكاح الإماء أيضا دواما و منقطعا باذن أهلهنّ و مالكهنّ لمن لم يستطع طولا أن ينكح المحصنات، فان إطلاق الأجرة علي المهر غير مقابلتها معه مع التصريح بأن ذلك اذا لم يكن مسافحات زانيات أو متّخذات أخدان، فان اتخاذ الخدن و معاشرة الفتيات و الفتيان بالتصادق و التلاصق محرّم كالزنا، كما يشير إليه ذكرهما معا في آيات «1».

ثم لا إشكال في أنه يعتبر في نكاح المنقطع ما يعتبر في الدائم من شروط العقد، و يزيد فيه تعيين المدة التي تراضيا عليها بعد فريضة الأجرة، فلا يكفي نفس تراضيهما بالاستمتاع مدة قبال أجرة بل لا بدّ من العقد بلفظ صريح في المتعة بأيّ لغة بعد عدم تمكّنهما من العربية و تعيين الأجرة و المدة.

ثم لا جناح عليهما فيما تراضيا عليه من بعد الفريضة أيضا بالزائد عليها بأن يكونا معا أكثر مما فرضاه أولا من المدة و الأجرة من بعد انقضاء المدة المفروضة بقرار جديد و عقد آخر، فلا تصح الزيادة في المدة و الأجرة بالتراضي فقط بل من بعد الفريضة الأولي إلّا أن تهب باقي المدة من الفريضة الأولي حتي يصدق الانقضاء

______________________________

(1)- «غَيْرَ مُسٰافِحٰاتٍ وَ لٰا مُتَّخِذٰاتِ أَخْدٰانٍ..». (النساء [4] الآية 25) «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ وَ لٰا مُتَّخِذِي أَخْدٰانٍ..». (المائدة [5] الآية 5)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 31

و التراضي الجديد، و الفريضة بعد انطباقها علي الأجرة تشمل المدة أيضا تحقيقا للتراضي أي التوافق في جوانب الأمر.

و بعبارة أخري: إن نفس حلّية الابتغاء بالأموال و الاستمتاع منهنّ بأداء الأجرة فريضة معلومة، لا تعطي لزوم تعيين

المدة أيضا إلّا بالملازمة بين فرض المال و فرض الوقت للحال في قوله تعالي: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، و أما قوله: وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا تَرٰاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إما تأكيد للأول، و أنه بعد تحقّق الفريضة في الأجرة و التراضي في المدة فلا جناح عليكم، كما لا يبعد، و اما تجويز للتجديد بعد انقضاء الفريضة الأولي مدة و أجرة فيما تراضيا عليه للاستقبال، فالتراضي للحال كان أوله للاستقبال تجديدا يفيد لزوم تعيين المدة- كما لا يخفي-.

مع أن الأمر متّضح بالسنّة الشريفة بحمد اللّه علي التفصيل في محله.

الفصل الرابع: المحرمات

اشارة

لا يحلّ نكاح بعض النساء بالنسب أو السبب، و قد أوضح ذلك في آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لٰا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكٰاتِ حَتّٰي يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لٰا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّٰي يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَي النّٰارِ وَ اللّٰهُ يَدْعُوا إِلَي الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آيٰاتِهِ لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. (البقرة [2] الآية 221)

تنهي الآية الكريمة المؤمنين عن نكاح المشركات و تقول: المؤمنة خير من المشركة و لو كانت معجبة بحسنها، و كذا تنهي المؤمنات عن نكاح المشركين و لو كانوا معجبين، فالشرك و الكفر يمنعان عن صحة نكاح المؤمن معهم لا أن نكاح

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 32

المشركين و الكفّار بين أنفسهم باطل حيث أن لكل قوم نكاح، فلا بدّ إذن و أن يكون زوج المؤمنة أو زوجته مؤمنا أو مؤمنة، قال تعالي: وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ»، وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ من مشرك و مشركة، و يصرّح بذلك أيضا قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا جٰاءَكُمُ الْمُؤْمِنٰاتُ مُهٰاجِرٰاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ، اللّٰهُ أَعْلَمُ

بِإِيمٰانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنٰاتٍ فَلٰا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَي الْكُفّٰارِ لٰا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لٰا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ..

(الممتحنة [60] الآية 10)، و في الكفّار قال تعالي: وَ لٰا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوٰافِرِ..

الدال علي بطلان نكاحهنّ.

و من المعلوم أن الايمان في المقام أريد به معناه الأعم و هو الاسلام، فيصح نكاح العامي بل المانع الشرك و الكفر، فيصح نكاح الكتابيين، و لا يشترط فيه الاسلام، نعم ما ذكر تعليلا من قوله تعالي: أُولٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَي النّٰارِ وَ اللّٰهُ يَدْعُوا إِلَي الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ لعلّه يعطي لزوم التحذّر عن كل نكاح يدعو أحد طرفيه الآخر الي النار، و لا سيما اذا كان الداعي الرجل لضعف المرأة، و لذلك يجتنب عن نكاح المرأة المؤمنة مع العامي بل مع المؤمن الشارب للخمر الفاسق كما في السنّة الشريفة، و لعلّه لذلك أيضا خصّ الجواز في الكتابيين بالمنقطع لعدم الدعوة فيه، و لا ينتقض بالمشركة الكافرة المحرّمات حتي الموقّت، فان النار فيهما أشدّ و أحرق منهنّ بعد إيمانهنّ باللّه و اليوم الآخر كما لا يخفي.

و لا يبعد دلالة الآية تعليلا و معللا علي مسألة الكفاءة و أن المؤمن كفو المؤمنة، ثم مراتب الايمان حتي ينتهي الي اختلاف مراتب العلم و الأدب دون المال و المنال كما هو المتعارف اليوم، فالملاك هو الدعوة الي النار، و ملاحظة مراتب الاختلاف التي ينتهي ترك رعايتها الي الدعوة الي النار بمراتبها كما لا يخفي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 33

المحارم

الثانية- قوله تعالي:

وَ لٰا تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ إِلّٰا مٰا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً وَ مَقْتاً «1» وَ سٰاءَ سَبِيلًا* حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ وَ عَمّٰاتُكُمْ وَ خٰالٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُ الْأَخِ وَ

بَنٰاتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهٰاتُكُمُ اللّٰاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ مِنَ الرَّضٰاعَةِ وَ أُمَّهٰاتُ نِسٰائِكُمْ وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسٰائِكُمُ اللّٰاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلٰائِلُ أَبْنٰائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلٰابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلّٰا مٰا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَ الْمُحْصَنٰاتُ مِنَ النِّسٰاءِ إِلّٰا مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ كِتٰابَ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ …

(النساء [4] الآيات 21- 24)

الآيات الكريمة تنهي عن نكاح منكوحة الأب و تحكم علي أنّ ذلك فاحشة و مقت، و كذلك منكوحة الجدّ للصدق عليه، و هي غير الأم لذكرها قبالها و التصريح بها بعدها مستقلا عنها، فالمحرّمات في الآيات الكريمة عددها ثلاث عشرة طائفة، و هي:

زوجة الأب و الجدّ، و الأم نسبا و رضاعا و إن علت، و البنت كذلك، و الأخت نسبا و رضاعا، و العمّة التي هي أخت الأب، دون عمّة العمّة ما لم تكن عمّة، و الخالة التي هي أخت الأم دون خالة الخالة ما لم تكن خالة، و بنت الأخ، و بنت الأخت و إن علتا، و أم الزوجة، و بنت الزوجة المدخول بها من زوج آخر دون غير المدخول بها، و حليلة الابن من الصلب دون الأدعياء كما سيأتي بيانه، و أخت الزوجة- جمعا بهما دون التفريق-، و المحصنة ذات البعل، فان كل هذه الموارد يحرم نكاحهنّ، و ذلك

______________________________

(1)- المقت: البغض الشديد لمن تراه تعاطي القبيح.. (المفردات).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 34

حكم اللّه تعالي و كتابه عليكم «أيها المسلمون» و أحلّ لكم ما وراء ذلك.

و الظاهر: إنّ العناوين السببية مثل منكوحة الأب و أم الزوجة و بنتها و أختها تشمل الزنا

و الوطي بشبهه أيضا، فتحرم أم المزني بها أو الموطوءة بشبهة و بنتها علي الزاني، و تحرم هي بنفسها علي أبيه و ابنه، فان الأول مصداق: أُمَّهٰاتُ نِسٰائِكُمْ»، و الثاني مصداق: رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسٰائِكُمُ اللّٰاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، و الثالث مصداق: حَلٰائِلُ أَبْنٰائِكُمُ» بالنسبة الي أبيه: مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ بالنسبة الي ابنه.

و ليس ذلك بمعني الإلحاق موضوعا أو حكما بالسنّة المباركة، فان الزنا و الوطي بشبهة ليس من النكاح، و كيف يصدق علي المزني بها أنها من: حَلٰائِلُ أَبْنٰائِكُمُ، بل القطع بأن النكاح بملاكه الأصلي غير المنفكّ عنه غالبا أي الدخول لو لم يكن ذلك معناه اللغوي، فانه يوجب الحرمة و يورثها، و العقد يوجب حلّيته و لعلّه لم يصدق عليه مقيّدا بعدم الدخول و الحليلة و إن كانت بلحاظ كونها معقودة عليها، إلّا أن أساس الحرمة هو الزوجية و المباشرة و الدخول مع التصريح به في ناحية الربيبة، و الإطلاق و الصدق يعطي الحرمة في الحليلة و أمهات النساء بعد العقد و لو قبل الدخول، كل ذلك بعد الزنا أو الوطي بشبهة و أما اذا طرءا علي العقد لم تحرم لانعقاد العقد بلا مانع كما هو ظاهر.

و الذي ينبغي الإشارة إليه: إنّ المذكورات في المقام هنّ المحرمات نكاحهنّ دون المحللات من ناحية النظر إليهنّ، و لا تلازم بينهما و إن كان بعضه كذلك علي ما في آية النظر، فقد قال تعالي بعد ايجاب الحجاب و تحريم النظر:

لٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبٰائِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰائِهِنَّ وَ لٰا إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ أَخَوٰاتِهِنَّ … (الاحزاب [33] الآية 55)، فيجوز للأب النظر الي ابنته، و للابن الي أمّه و أخته، و

لابن الأخ الي عمته، و لابن الأخت الي خالته، كل ذلك من غير ريبة، كما سيأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالي في محله، و أما غيرها فلا يستفاد من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 35

حرمة نكاحهنّ جواز النظر، كما تري في المحصنات اللّاتي عدّت من الأول، و لا يجوز النظر إليهنّ قطعا فلا بدّ من التماس دليل آخر إلّا أن تقبل التنزيل حتي تكون منكوحة الأب بمنزلة الأم و كذا أم الزوجة بتنزيل الصهر منزلة الابن و الربيبة بمنزلة البنت لا سيما مع القيد، و أما بنت الأخ و بنت الأخت فبتنزيل العم و الخال منزلة العمّة و الخالة دون تنزيلهما منزلتهما لعدم وجود وجه لهما، و الأمر سهل بعد التفصيل في السنّة الشريفة بحمد اللّه.

المحيض

الثالثة- قوله تعالي:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذيً فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰي يَطْهُرْنَ فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّٰهُ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. (البقرة [2] الآية 222)

أمر اللّه تعالي في هذه الآية الكريمة باعتزال النساء في المحيض، لأنّه أذي حَتّٰي يَطْهُرْنَ، فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ يجوز إتيانهنّ من حيث أمر اللّه.

فلا إشكال في دلالة الآية الكريمة علي حرمة المباشرة بمعني المواقعة معهنّ حال الحيض، لأنّه المتيقّن المتوقّع منهنّ مع تناسب الحكم و الموضوع، فان كيفية الأذي يناسب منع المواقعة، و أما الاستمتاع بما دون ذلك فهو باق علي الجواز و الحلّية استصحابا لا بل دليلا لأن المواقعة فقط متيقّنة الخروج.

كما ان المتيقّن من الحرمة حالة الابتلاء به فقط، أما بعد زواله و قبل الغسل فهو باق علي الجواز أيضا، و لا تستصحب الحرمة لأن المتيقّن هو ذلك المقدار، و لا شكّ لإطلاق دليل

الجواز مع ارتفاع تناسب الحكم و الموضوع، نعم لو ثبت أن التطهّر المذكور غاية للنهي في قوله تعالي: حَتّٰي يَطْهُرْنَ بالتشديد لكانت

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 36

الحرمة الي الغسل و لم يثبت هذا «1».

و أما الأمر باتيانهنّ بعد التطهّر أو التطهير حيث أنه عقيب الحظر فلا يعطي شيئا إلّا ما كان عليه قبله فانه لبيان منتهي الحرمة لا مبدأ الجواز.

ثم تقييد الإتيان بقوله تعالي:.. مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّٰهُ يشعر الي لزوم تعديل إتيانهنّ الي ما هو المتعارف بين الزوجين زجرا عن وطئهنّ دبرا علي حدّ الكراهة بل الحرمة لو كان الأمر تحديدا، إلّا أنه راجع الي ما هو الأمر من أول الأمر علي سعة قوله تعالي: نِسٰاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰي شِئْتُمْ (البقرة [2] الآية 224)، زمانيا كان كلمة: أَنّٰي أو مكانيا ألّا أن يقال برعاية المحرث، و الدبر كأرض سبخة لا تحرث ما يزرع فيها، و كيف كان الحكم بالحرمة فهو خلاف الاحتياط، و الاحتياط في تركه أولي و لا بأس بالحكم بالكراهة الشديدة كما لا يخفي.

______________________________

(1)- فان التطهّر متعدّيا ظاهر في رفع الحدث و القذارة النفسية كما يرشد إليه موارد استعماله في الكتاب الكريم، فقال تعالي: «إِنَّ اللّٰهَ اصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفٰاكِ عَليٰ نِسٰاءِ الْعٰالَمِينَ» (آل عمران [3] الآية 42)، و قال أيضا: «.. أُولٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّٰهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ..» (المائدة [5] الآية 41)، و قال أيضا: «.. أُنٰاسٌ يَتَطَهَّرُونَ» (الاعراف [7] الآية 82)، و قال أيضا: «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ» (التوبة [9] الآية 103)، و قال أيضا: «إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (الاحزاب [33] الآية 33)، و غيرها من

موارد كثيرة مثل التي في سورة (النمل [27] الآية 56)، و في سورة الأنفال [8] الآية 11) و غيرها، فان الموارد لا تساعد علي غير رفع الحدث و طهارة الباطن، كما ان ظاهر استعماله لازما في رفع الخبث و النجاسة الظاهرية كما هو معناه اللغوي في قولهم: (طهر ضدّ نجس)، قال تعالي: «وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً» (الفرقان [25] الآية 48).

و الأمر في آية الطهارات الثلاث حيث انه متعدّ يفيد وجوب الغسل و التطهّر في النفس زائدا علي التنظيف الظاهري، و الخبث الذي لا بدّ من إزالته في الجنابة و الحيض أبعد عن مقام الانسانية و توغّل في الحيوانية لا سيما في الجنابة حال الإجناب و المباشرة، و ذلك معني الجنابة لغة دون البعد عن أحكام الطاهرين، كما قيل، فانه اعتباري، و الحدث أمر نفسي عيني و لذلك لا يرتفع إلّا بالتقرّب الي اللّه تعالي حين امتثال أمره فيعود الي الانسانية، و يعتدل حيث ان الانسان ينجذب الي قطب بالإصرار و التكرار و ترتفع خباثته الظاهرية أي النجاسة التي تكون تحت كل شعرة في الجنابة أيضا.

و كيف كان ففي المقام حيث يمكن القراءة متعديا و لازما و لا دليل علي تعيين أحدهما لا وجه للحكم بالحرمة قبل الغسل، و قد أشير إليه في كتاب الطهارة أيضا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 37

الظهار

الرابعة- قوله تعالي:

مٰا جَعَلَ اللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ مٰا جَعَلَ أَزْوٰاجَكُمُ اللّٰائِي تُظٰاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهٰاتِكُمْ وَ مٰا جَعَلَ أَدْعِيٰاءَكُمْ أَبْنٰاءَكُمْ ذٰلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوٰاهِكُمْ وَ اللّٰهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. (الأحزاب [33] الآية 4)

الآية الكريمة تنفي و تردّ بعض ما كان في عصر الجاهلية شائعا معتبرا، منها أنّه تعالي

لم يجعل لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «1» و انه لا يمكنه التوجّه الي أمرين في آن واحد، و لعل منه امتناع اجتماع الدنيا و الآخرة بمعناه المشروح في وجه، فلا يجتمع وجهان يلي أحده الربّ و يلي الآخر الخلق.

و منها أنّه ما جعل اللّه أزواجكم اللائي تظاهرون منهنّ أمهاتكم، فلا يتمّ ما هو المعمول بينهم من جعلهم القول للزوجة: «أنت عليّ كظهر أمّي» طلاقا بل أشدّ منه يورث الحرمة الأبدية و تصير الزوجة بمنزلة الأم. و نفي ذلك بردّ الأمومة و أنه لا يوجب الحرمة الأبدية، لا ينافي الحرمة و هي ترتفع بالكفّارة علي ما سيأتي بيانه إن شاء اللّه في ختام كتاب الطلاق في بحث الظهار و الإيلاء.

و منها أنّه ما جعل اللّه أدعياءكم أبناء لكم، فلا يترتّب عليهم أحكام الأبناء بدعائكم لهم، فان ذلك قول و تفوّه لا أساس له في الخلقة و لا في الاعتبار الشرعي، فلا يحرم عليكم حلائلهم بعد الطلاق و لا حلائلكم عليهم كذلك، فانهنّ لا أمهات لهم و لا أزواج الآباء و منكوحاتهم، كما انهنّ لسن بحلائل الأبناء، و صرّح بذلك النفي أيضا تقييد الابن بالصلب في قوله تعالي عطفا علي المحرمات:.. وَ حَلٰائِلُ

______________________________

(1)- قيل في شأن الجملة أنه كان رجل يقال له: جميل بن معمر بن نهري شديد الحافظة و كان يقول: (إنّ لي قلبين اعلم بكل منهما أكثر من علم محمد..)، و لذا فان قريشا أسموه: (ذو القلبين)، فعند انهزام الكفّار في معركة بدر رأوه هاربا آخذا بيده إحدي نعليه و الأخري برجله، فقيل له: انتبه..!! قال: ما كنت أعلم ذلك، فعلموا أنّه ما كان له من قلبين في زمان، و الآية علي سياق الكلّي،

فقد بيّنت الحقيقة النفسية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 38

أَبْنٰائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلٰابِكُمْ، فلا تحرم حلائل غير الصلبي ممن تدعونهم أبناء، و أصرح من ذلك كلّه قوله تعالي:.. لِكَيْ لٰا يَكُونَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوٰاجِ أَدْعِيٰائِهِمْ إِذٰا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً في قصة زيد و تزوّج النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) زوجته بعد ما طلّقها- علي تفصيل في محله.

و حكم اللّه تعالي في ذلك كلّه هو الحق و سبيله هو الرشاد، و هو أحقّ أن يتّبع لا حكم الجاهلية التي تبغي عوجا، فهو قول يتفوّهون به بألسنتهم من غير تدبّر و تأمّل.

فعليكم (أيها المسلمون) أن تدعوا كل أحد لأبيه فان ذلك أقسط و أعدل عند اللّه تعالي، فان لم تعلموا آباءهم و لا تعرفونهم فهم إخوانكم في الدين و مواليكم في الايمان، و ليس عليكم جناح فيما أخطأتم، و لكن ما تعمّدت قلوبكم، و كان اللّه غفورا رحيما.

أمّهات المؤمنين

الخامسة- قوله تعالي:

.. وَ مٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّٰهِ وَ لٰا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوٰاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كٰانَ عِنْدَ اللّٰهِ عَظِيماً. (الاحزاب [33] الآية 53)

تنفي الآية الكريمة صراحة جواز نكاح أزواج النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من بعده أبدا و بذلك تعطي الحرمة الأبدية و أنه لا يجوز للمؤمنين نكاحهنّ من بعده سواء كان ذلك بملاك التحليل و الاحترام لمقام النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو لمقام أزواجه من بعده، كما يعطي نفس الحكم قوله تعالي: النَّبِيُّ أَوْليٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ (الاحزاب [33] الآية 6)، فان جعل الأمومة اعتبارا شرعيا في سياق جعل الولاية لا يصح إلّا بالإلحاق بالحكم، فحرمتهنّ كحرمة الأم

الأبدية، فلا يرد عليه ما عن صاحب كتاب (الكنز)- رضوان اللّه عليه- من لزوم حرمة أولادهنّ أيضا فانهنّ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 39

أخوات للمؤمنين و هكذا العمومة، لأن التنزيل و الاعتبار يقتصر علي دليله و يدور الحكم مداره، فلا يصغي الي ما توهّم أن ذلك عنوان لهنّ للتجليل بقرينة أولوية النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، كما لا يصغي الي حمل النهي المستفاد من النفي علي التنزيه و الكرامة، فان ذلك يردّه صراحة العطف علي الإيذاء المحرّم قطعا لا سيما في سياق بحث العشرة مع النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بالأمر و النهي من قوله تعالي: لٰا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلّٰا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِليٰ طَعٰامٍ غَيْرَ نٰاظِرِينَ إِنٰاهُ وَ لٰكِنْ إِذٰا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذٰا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا «1» … الآيات، علي ما سيأتي بحثها إن شاء اللّه تعالي في كتاب:

المجتمع و الآداب.

و أما الولاية الشرعية المجعولة للنبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في طول ولاية اللّه تعالي و ولاية المؤمنين علي أنفسهم و أموالهم من قبيل ولاية الأب و الجد من دون ورود العاملين علي معمول واحد- كما أشرنا إليه في كتاب الولاية و الحكومة- فهي غير مرتبطة بولايته التكوينية التي هي مسألة ثقيلة قد أوصي الأئمة المعصومون (صلوات اللّه عليهم) أصحابهم بترك ذكرها و ذكر أمثالها من مسألة الطينة و غرض الخلقة و القضاء و القدر، و الجبر و التفويض … و غيرها ممّا يصعب حلّها علي العموم إلّا أن يجدوا أهلها فيبيّنوها لهم بارشاداتهم حسب الشروط في روايات خاصة لا تخفي علي من له قلب أو ألقي السمع و هو شهيد.

و الولاية بمعني الوساطة في الفيض

الوجودي عن اللّه تعالي لا مستقلا عنه، و هي ثابتة له (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و للأئمة المعصومين (عليهم السّلام) بما أنهم نور واحد مخلوق قبل كل شي ء، حينما لم يكن مع اللّه أحد، لا ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل، و بما أنهم مجاري الفيوضات الحقيقية و الأنوار العينية، فلا يوجد شي ء بلا وجود، و لا وجود بلا علّة، و لا علّة إلا و هو معلول متسلسلا الي أول معلول لا علّة له إلّا علّة العلل

______________________________

(1) الاحزاب [33] الآية 53.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 40

و الوجود الغني الواجب المبدئ الأول الذي هو اللّه تعالي و هو علّة و لا معلول، و أول معلوله نور واحد، فان الواحد الحقيقي من جميع الجهات لا يمكن أن يصدر عنه إلّا واحد، كما ان الواحد الكذائي لا يصدر إلّا عن الواحد و هو المجري لجميع الفيوضات المنتشرة يعبّر عنها بالعقل الأول، الوجود المنبسط و الحقيقة المحمدية (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فان أول ما خلق اللّه العقل و نورهم (عليهم السّلام) المتنوّر به كلّ ظلمة، و المهيات ظلمات، و الوجود نور حقيقي، فكل وجود تنوّر به شي ء و ماهيّته فيض يصدر عن المبدأ الأول و يعبّر عن معلوله الأول، و ذلك معني وساطتهم في الفيض و ولايتهم في الكون، و لا شي ء إلّا تحت ولايتهم، و حيث ان العلّة واجدة للمعلول لا بحدّه، و ما زاد دون المعلول و العلم هو الواجدية و الحضور، فكل علّة عالمة بمعلولها علما حقيقيا و لا يمكن العكس، فكل حلقة من سلسلة عالم بما دونه دون ما فوقه، و ما في رأس الخلق فهو عالم بجميع ما

سواه، و من الوسط اذا كان علي وضع يتمكّن من اتصاله بالفوق فهو في حال الاتصال عالم بالسابق و بوساطته باللاحق، و هذا معني قولهم (عليهم السّلام): «لو شئنا علمنا»، «و لو لا الإمام لساخت الأرض بأهلها»، و غير ذلك ممّا فصّل في محلّه، و كأن القلم اغتصب منّا العنان و قادنا الي ما لسنا من أهله، و ليس المقام محلّه، فمنك العفو ايها القارئ المحترم.

المكروهات

خاتمة للفصل في المكروهات:

قال تعالي:

الزّٰانِي لٰا يَنْكِحُ إِلّٰا زٰانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزّٰانِيَةُ لٰا يَنْكِحُهٰا إِلّٰا زٰانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ. (النور [24] الآية 3)

الآية الكريمة كأنّها تخبر عن تناسب و سنخيّة في الكفاءة الملحوظة في النكاح عرفا، و ان الرجل الزاني بانحرافه و اعتياده بذلك الذنب العظيم لا يري نفسه صالحا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 41

لنكاح المؤمنة الملتزمة بالحلال و الحرام، فلا يفكّر إلّا بزانية أو من يشبهها في عدم المبالاة من مشركة فلا ينكح إلّا إيّاها، و كذا الزانية لا تتوقع و لا تنتظر أن ينكحها مؤمن صالح بل تري نفسها مطلوبة لمسانخها و هو رجل زان لا يبالي بشي ء من الأحكام أو مشرك كذلك، لا سيّما مع التوجّه الي أن الوصف عنوان لا يصدق علي من زني اتفاقا ثم تاب من غير أن يحدّ و يعلم به أحد بل المراد المعنيّون به كشارب الخمر و آكل الربا و أمثالهما، و هذا المفاد غير ما هو في الفقه من الجواز و عدمه أي الصحة و الفساد، مع انّا نري أن الزاني قد ينكح غير الزانية و غير المشركة من مؤمنة صالحة، و كذا الزانية قد ينكحها غير هما من مؤمن صالح بعد ما تابت

و انصرفت عمّا كانت عليه، و الإطلاق بلحاظ السابقة، و لا إشكال في صحة نكاحهما هذا، فان زناهما علي النهاية يجعلهما فاسقين و لا يخرجهما عن الايمان بمعناه الفقهي الواسع الموضوع للأحكام، إلّا أن بيان ذلك و إلحاق الزاني بالمشرك، و الزانية بالمشركة بعد إفادة أن الزنا كبيرة و ان نكاح كل منهما الآخر متناسب، يشعر بعدم تناسب نكاح المؤمن معهما، و ذلك معني الكراهة، و يحمل عليها الحرمة في قوله تعالي: وَ حُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ.

و الحاصل أن الآية الكريمة تحكم بألطف بيان بكراهة نكاح الزانية دواما و منقطعا، و كذلك تزويج الزاني، و أما حكم المشرك و المشركة فقد عرفته من قبل صريحا.

الفصل الخامس: النشوز

سنبحث في هذا الفصل ما يتعلّق في النشوز و العصيان بين الزوجين، و فيه آيات تتصدي بعضها الي نشوز النساء، و الأخري الي نشوز الرجال، ثم طريق الحل

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 42

و رفع الخلاف.

الأولي- قوله تعالي:

الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَي النِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَليٰ بَعْضٍ وَ بِمٰا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوٰالِهِمْ فَالصّٰالِحٰاتُ قٰانِتٰاتٌ حٰافِظٰاتٌ لِلْغَيْبِ بِمٰا حَفِظَ اللّٰهُ وَ اللّٰاتِي تَخٰافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضٰاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلٰا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيًّا كَبِيراً* وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقٰاقَ بَيْنِهِمٰا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا إِنْ يُرِيدٰا إِصْلٰاحاً يُوَفِّقِ اللّٰهُ بَيْنَهُمٰا إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً خَبِيراً.

(النساء [4] الآية 35 و 36)

تخبر الآية الكريمة- أولا- عن حقيقة تكوينية تشهد بها العلوم الحديثة الجديدة بفنونها الحياتية و الطبيعية، و هي: تفوّق الرجل علي المرأة، و هما صنفان من نوع واحد، فالرجال قوّامون علي النساء بما فضّل اللّه بعضهم علي بعض في الخلق و الطبع،

و بما يترتّب علي هذا التكوين من الاعتبار ترتّب الحكم علي الملاك- ثانيا- من أن الرجال أنفقوا من أموالهم أي عليهم ذلك نحلة و مئونة، و هي المعيشة من مأكل و ملبس و مسكن فيجب عليهم ذلك، و الإطلاق يحمل علي ما هو المتعارف حسب شأنها في الجهات المختلفة التي تعنيها.

و قبال ذلك فالزوجات الصالحات يكن خاضعات لأزواجهنّ، قانتات مطيعات لهم، حافظات لما يجري بينهنّ و بين أزواجهنّ ليلا و نهارا في مختلف شئون حياتهم الزوجية بما حفظ اللّه تعالي. و بهذا تفيد الآية الكريمة وجوب إطاعة الزوجة لبعلها و حرمة النشوز، و كذلك وجوب التحفّظ علي الزوج في المال و النفس و التستّر علي أسراره، أي أن الصالحات لا بدّ و أن يكن كذلك.

و أما غير الصالحات اللاتي تخافون نشوزهنّ و عصيانهنّ فعظوهنّ- أولا- موعظة حسنة لتصلحوهنّ، و من المعلوم أن موعظة الرجل لامرأته غير موعظة غيره لها، فلا بد و أن تكون زائدة علي غيره، و ذلك علي أساس المحبّة و استدرار العطف،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 43

و ذكر الأسرار العائلية و توضيحها لكونها من مسئوليات الزوجين و التذكير بعواطف الأم و تأثيرها في سعادة الأولاد إن كانت ذات ولد، ثم التذكير بالآخرة و يوم القيامة و نتائج الأعمال ثوابا و عقابا؛ فان أثّرت المواعظ فيهنّ و رجعن عن النشوز و أطعنكم فبها و نعمت، و إلّا فاهجروهنّ في المضاجع، و هذا يورث إطاعتهنّ بالطبع، لافتقارهنّ إليكم و الي محبّتكم و الي مضاجعتكم حسب الخلقة و الفطرة، ثم بعد ذلك إن لم يطعنكم أيضا فاضربوهنّ تنبيها لا بغيا برعاية المراتب شدّة و ضعفا بموازاة احتمال التأثير، و اللّه تعالي أعلي و أكبر، يجازيكم

ببغيكم عليهنّ و التكبّر و التنمّر.

و بعد ذلك كلّه، إن خفتم الشقاق أيضا فلا طريق إلّا الإصلاح و الاستمداد بالتحكيم بأن يعيّن حكما من أهله و حكما من أهلها، فان كانا يريدان الإصلاح حقا يوفّق اللّه بينهما، و اللّه عليم بما تعملون في تلك المراحل، خبير بما تريدون من البغي عليهنّ أو الإصلاح فاحذروه و اتقوه.

الثانية- قوله تعالي:

وَ إِنِ امْرَأَةٌ خٰافَتْ مِنْ بَعْلِهٰا نُشُوزاً أَوْ إِعْرٰاضاً فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يُصْلِحٰا بَيْنَهُمٰا صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً* وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلٰا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً.

(النساء [4] الآية 128 و 129)

الآية الكريمة تتصدّي لحكم نشوز الرجال و تعصّبهم، فان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا عنها فلا جناح عليهما أن يصلحا، فان الصلح خير، و ان كانت النفوس علي شحّ و حرص، و ذلك يوجب تشديد الاختلاف بين الزوجين، فانه لم يخلق إنسانان متماثلان في جميع الشئون الجسمية و الروحية، فكل انسان يغاير الآخر في أمور فكرية و روحية قطعا، و لا سيما الرجل و المرأة، فلا بدّ من التفاهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 44

و الغضّ عن موارد الاختلاف، و الاستفادة من موارد الاتفاق، و لا سيما الطبيعية منها، فالإحسان و الخير يقتضيان الصلح و التسلّط علي شحّ النفس، فأحسنوا و اتقوا فان اللّه بما تعملون خبير من انكم ايها الرجال لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسٰاءِ في تلك المواقع و الظروف حال ظهور الشحّ و بروز العصبية و لو حرصتم عليه بمقتضي

العقل و الايمان لما في أنفسكم من طلب التجديد و التنوّع، و كل شي ء في العيش معا يصير عاديا بسرعة بعد زمان، و النفس لن تشبع أبدا، فلا تميلوا عن حسن السلوك و هناءة العيش كل الميل فتذروا الزوجة كالمعلّقة لا ذات بعل فتتمتّع ببعلها و لا مطلّقة فتملك نفسها أو يخطبها خاطب. و أما احتمال الإطلاق، و شمول حكم عدم الاستطاعة بتعدد الزوجات أيضا فقد عرفت جوابه من أن غير الممكن غير ممكن، فان الأول راجع الي القلب و الباطن و الثاني الي ظواهر الأمور.

و كيف كان فالإحسان و التقوي و العدل بينهنّ و لو في ظواهر الأمور أفضل و أقوم بحكم العقل و الايمان، فاعفوا عن خطيئاتهنّ و سيئاتهنّ تحقيقا للصلح و تمتّعا بالخير.

ثم اعلموا أن الطلاق و انفصال كلّ عن الآخر لا يوجب هلاكا، فلا تتخيّلوا و يقول أحدكم: لولاي لما كنت تقدرين علي المعيشة و الحياة و اني أنا الذي أكفيك فقط، و لا كفيل لك بعدي، و أمثال ذلك، فان اللّه تعالي يغني كل عبد من عباده رجلا كان أو امرأة بما لديه من النعمة من كل جهة، قال تعالي: وَ إِنْ يَتَفَرَّقٰا يُغْنِ اللّٰهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَ كٰانَ اللّٰهُ وٰاسِعاً حَكِيماً (النساء [4] الآية 130).

ثم انك ممّا عرفت تعلم ان الرابطة بين الزوجين لا بدّ و ان تكون علي الصفاء و الصداقة و العفو و المروءة و الهناءة و التمتع، فعلي المرأة الإطاعة لزوجها و التحفّظ عليه، و علي المرء العدالة و التقوي في رعاية زوجته و حقوقها فانه قوّام لها و قوّام عليها أيضا، و هي ريحانة تشمّ لا قهرمانة تصارع، و في تعبير آخر: الرجل محتاج

لجثتها و هي محتاجة لمحبّته و علقته أكثر من جثّته.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 45

و مع ذلك كلّه فان ظهر بينهما التمرد و النشوز فهو أمر طبيعي في الجملة، فان كان من جانبها فعلي الرجل موعظتها أولا، ثم تنبيهها بالهجران، ثم الضرب دون البغي عليها، و ان كان من جانبه فعليها الدعوة الي الصلاح و الإصلاح مهما أمكن، و إلّا فالتفريق دون التعليق بغيا، فان اللّه تعالي يغني كلا منهما بما لديه من الفضل و النعمة.

و في الترتيب لطف لا يخفي، فان الموعظة مستفادة من مرحلة التعقّل بمعونة العواطف التي تكون فيهنّ أشدّ و أقوي، ثم الهجران مستفاد من الغرائز الطبيعية التي تكون فيهنّ كذلك و هما استمداد من الباطن ثم من الخارج. و الظاهر التحديد في الحدود و التأديب بالضرب كل ذلك منهما، و عند عدم الإمكان لا بدّ من الاستمداد بتعيين حكم من أهله و حكم من أهلها، فان أراد إصلاحا واقعا يوفّق اللّه بينهما، و إلّا فآخر الدواء الكيّ و لا خلاص إلّا بالطلاق.

ثم انك حال المقارنة بين حكمي نشوزهما تري بوضوح نكتة الحراسة من قيّومية الرجال، و ان لهم التصدّي للارشاد ثم التنبيه بمراتبه دون النساء، فانهنّ اذا خفن من بعلهنّ نشوزا أو إعراضا، فعليهنّ الإصلاح أو علي الحكمين منهما لا عليها فقط أو الحكم الذي تختاره، و هو يشير الي عدم رشدها و صلاحيتها الي حدّ إدارة المعيشة مستقلة في زوايا تفتقر الي التعقّل و العزم بحسب النوع.

هذا في كونها قد ابرزت أسرارها فكيف بأسرار قومه و شعبه و مجتمعه، و يا عجبا من أدب الاسلام في اعلان تلك الأسرار حين التحفّظ علي شخصيتها بما هي عليها من أنها إنسانة

لا يجوز لها البغي علي زوجها بوجه من الوجوه كما فصّل في محله.

و مع ذلك كلّه فالإسلام ينهاهنّ صريحا عن التظاهر و التبرّج تبرّج الجاهلية، بل ينهاهنّ عن الخضوع بالقول، فان ذلك يورث انهدام شخصيّتهنّ و طمع من في قلبه مرض. و شمول الخطاب في الآية الكريمة لغير نساء النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) مع العناية الي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 46

شأنهنّ ظاهر، قال تعالي:.. وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لٰا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجٰاهِلِيَّةِ..

(الاحزاب [33] الآية 33)، و سيأتي الكلام عنه إن شاء اللّه في بيان مسألة الحجاب في كتاب: «المجتمع و الآداب».

[النتائج]

نتيجة البحث [الاول]

آيات الفصل الأول فروع، هي:

الأول: النكاح واجب علي العزّاب الأيامي الذين لا يجدون نكاحا فيبتلون بترك العفّة و العفاف، و لا بدّ من انتخاب الصالح.

الثاني: يجب الاستعفاف علي من لم يجد نكاحا حتي يغنيه اللّه تعالي من فضله مع سعيه الجميل في طريق تحصيله.

الثالث: يحرم شرعا و عقلا ابتغاء كل عرض من الحياة الدنيا بأن يستدرج الفتيات و الفتيان الي السفاح و البغاء.

الرابع: لا إشكال في جواز تعدد الزوجات الي الأربع، و لا بدّ من رعاية العدالة بينهنّ ما أمكن في المأكل و المشرب و المسكن و الفراش و جميع حقوق المعيشة، و لا بأس باختلاف المحبة و العلاقة الباطنية القلبية ما لم يكن في الظاهر خلاف.

الخامس: يصحّ استمتاع المتعدد الزوجات و يحلّ الاستمتاع بهنّ مع عدم العدالة أيضا، و ان ظلم نفسه و زوجته تكليفا.

السادس: يجوز استمتاع كل من الزوجين بالآخر بأيّ وجه شاءا، و من أيّ جزء من جسدهما نظرا كان أو لمسا أو دخولا.

السابع: يجوز استمناء الرجل بأيّ جزء من أجزاء بدن حليلته و كذلك استمناء

المرأة بأي جزء من أجزاء بدن زوجها.

الثامن: يجوز استمتاع الرجل بأمته المملوكة له كزوجته، و الاستمناء بأيّ جزء من بدنها، كما يجوز استمتاعها بمالكها و استمنائها بأيّ جزء من بدنه كل ذلك بنفس

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 47

الملكية.

التاسع: العبد المملوك للحرّة كالأجنبي لها، فعليها التستّر منه، و يحرم النظر و اللمس، فكيف الاستمتاع بالملكية.

العاشر: يجب حفظ الفرج و ستره عن الغير مماثلا كان أو غير مماثل، فيحرم النظر إليه من الغير في غير الزوجين.

الحادي عشر: يحرم اللواط، و المساحقة، و المجامعة مع الحيوان أو الميت و لو كان زوجته أو المجسّمة اللينة الطرية، و كذا الاستمناء بأيّ وجه كان سواء كان باليد أو بالنظر أو بالتخيّل.

الثاني عشر: لا تنعقد الزوجية بين المالك و مملوكه رجلا و امرأة، أمة أو عبدا ما دامت الملكية محققة.

الثالث عشر: لا يجوز للعبد النظر الي سيدته مكشوفة، و يجب أن تكون نظرته كنظرته للأم و الأخت بلا ريبة أيضا، كما لا يجوز لها النظر إليه إلا كنظرتها الي الأب و الابن و سائر محارمه.

نتيجة البحث الثاني

و لآيات الفصل الثاني فروع أيضا، و هي:

الأول: لا يقع العقد علي التي تكون في عدّة الغير من وفاة و غيره.

الثاني: لا يجوز التواعد مع النساء سرّا عن أهلهنّ و إنّ كان التقاول معهنّ بالمعروف جائزا، و لا يبعد اختصاص ذلك بالمعتدّة دون الباكرة.

الثالث: لا بدّ في تحقق العقد و انعقاد الزواج من لفظ صريح من النكاح و الزواج و ما يقوم مقامهما في اللسان، فلا يكفي المشتركات و الكنايات حتي لفظ الهبة لغير النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، و أما اذا كان له (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فمحلل مستقل

لا نكاح علي القول به كما وضّح من قبل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 48

الرابع: يجب ردّ الصداق و المهر الي النساء اذا طالبن به، و لا يحلّ أكله بالباطل إلّا اذا طابت به أنفسهنّ أو ببعضه.

الخامس: يجوز خطبة المرأة للرجل كما يجوز العكس.

السادس: لا بدّ في العقد من عوض و مهر، و هو الصداق.

السابع: كل ماله ماليّة يصح أن يجعل صداقا و لو عملا.

الثامن: لا بدّ من تعيين أطراف العقد من الناكح و المنكوحة و الصداق حتي يصحّ، و لا يضرّ عدم تعيّن البضع لعدم إمكانه.

التاسع: الصداق ملك للزوجة فلا يحل أكله بالباطل.

و هناك فروع أخري لا بدّ من ذكرها مما يناسب المقام، و هي:

لو أنكح ابنته الصغيرة ولاية لوليّ العصر الإمام الغائب (عليه السّلام) و قبل من قبله فضوليا الإيجاب من قبلها، فلما بلغت أشدّها و لم يظهر من ناحيته (عليه السّلام) ردّ أو إمضاء، فهل تبقي معلّقة لتزلزل العقد إلّا أن تردّه بنفسها، أو يبطل باستظهار ردّه (عليه السّلام) من انه لا يترك الواجب من الإنفاق و باقي الحقوق كما قيل، فلها التزوّج من غير دخالة الفقيه الحاكم، أو لها ذلك بعد الإرجاع إليه و ضرب الحاكم الأجل فتنتظر انتظار الزوجة الغائب عنها زوجها فيسرّحه الفقيه نيابة بعد انقضائه، أو أن ذلك الغائب العادي دون ما نحن بصدده مع العلم بحياته و إحاطته و إمكان الردّ أو القبول صريحا و الشك في شمول نيابة الفقيه لمثل ذلك؛ وجوه:

فاذا قبلت و أجازت العقد بعد بلوغها لا سيما مع علمها بخصوصيات الحال فقد تمّ العقد من ناحيتها، و لا طريق الي الخروج، و أما من ناحيته (عليه السّلام) فاستظهار البطلان من تركه الواجب كما حكي

عن المحقق الخراساني صاحب كتاب الكفاية (رحمه اللّه) جوابا عمّن ابتلي بذلك من زهّاد زمانه في النجف الأشرف ظاهر الضعف، فان نفقتها ليست عليه بمجرّد العقد الفضولي قبل الإجازة و تمام العقد، و لو سلم ففي أمواله و علي وكلائه أداؤها ما لم يثبت الردّ و لا ينفق عليها حينئذ بعنوان

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 49

الزوجة، و مجرّد ترك الإنفاق مباشرة لا يثبت الردّ لعدم ثبوت حقّ أولا، و عدم تركه ثانيا، و لا بأس به اذا كان غيبة الزوج لوجه صحيح ثالثا كما لا يخفي فليس لها التزوّج بعد قبولها العقد و قبل ردّ الفقيه العقد.

و أما بقاؤها معلّقة فلا يساعد شأن الامام (عليه السّلام)، فقد يستظهر من نفس ذلك أن الامام (عليه السّلام) لم يقبل العقد و جعلها مسرّحة، و علي الفقيه إظهار ذلك و إبلاغه كسائر أموره التي يستظهر الفقيه رضاه أو عدمه فيعمل عنه نيابة، و ذلك غير شمول أدلة النيابة بإطلاقها للمورد حتي يستراب فيه. و عليه فلا فرق بين المورد و الغائب العادي، فلا بدّ من دخالة الفقيه و ردّه العقد حتي يخرج العقد عن التزلزل و تخلص عن قبولها و تصير مسرّحة يمكنها أن تبتعل.

ثم ان ما ذكرناه لا ينحصر بالإمام (عليه السّلام) بل يشمل كل غائب، جعل علي أموره وكيلا أو وكلاء و لم يكن له وسيلة عادية لإبلاغ نظره بصورة مباشرة كما لا يخفي، فلا يقال: إنّ ذلك العقد للإمام (عليه السّلام) أمر لهوي غير عقلائي من أول الأمر، فان ذلك من عدم المعرفة بحق الامام (عليه السّلام) و شأنه فانّه حيّ مرزوق بين الناس يأكل و يمشي غائبا عن الأنظار (عجّل اللّه تعالي فرجه الشريف

و أعزّ به الاسلام و أهله إن شاء اللّه تعالي).

نتيجة البحث الثالث

و لآيات الفصل الثالث فروع أيضا، هي:

الأول: النكاح قسمان: دائم و منقطع، يسمي الثاني بالمتعة من غير فرق بين الحرّة و الأمة، و لا بدّ أن يكون باذن أهلها.

الثاني: يحرم علي كل من الفتيان و الفتيات اتخاذ الخدن أي اتخاذ صديق مصاحب من جنس مخالف شهوة، كما هو المتداول بين مدّعي المدنية في بلاد الكفر، و مع الأسف بين غير المبالين من المسلمين في بعض بلادهم، و حرمة ذلك

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 50

لا يقل عن حرمة الزنا.

الثالث: لا بدّ في النكاح المؤقّت من كل ما لا بدّ منه في الدائم، و يزيد لزوم تعيّن المدّة و الأجرة، فلا يكفي التراضي بلا عقد و لفظ.

نتيجة البحث الرابع

و لآيات الفصل الرابع فروع أيضا، هي:

الأول: لا يجوز للمؤمن نكاح المشرك و المشركة، و بالأولوية الكافر و الكافرة و لا بأس بنكاح الكتابية مؤقّتا.

الثاني: لا بأس بنكاح المؤمن للعامية مطلقا، و أما المؤمنة للعامي فلعلّه لا بأس به اذا كانت قوية علي حد لم تتأثّر به بل أنها تؤثّر فيه.

الثالث: ينبغي الاجتناب عن كل نكاح يدعو أحد الطرفين الآخر الي النار، و لا سيما نكاح شارب الخمر، الفاسق المفسد بشربه الحرث و النسل- كما ورد في السنّة المباركة.

الرابع: المؤمن كفؤ المؤمنة في النكاح مع رعاية مراتب التقوي و الأدب دون المال و المنال، نعم لا بدّ من التحرّز الي كل ما يلزم البعد عن اللّه تعالي و الدعوة الي النار في ضروريات المعاش.

الخامس: لا يجوز نكاح المحارم بوجه، و المحارم هي:

زوجة الأب، الأم نسبا و رضاعا، البنت، الأخت، العمّة، الخالة، بنت الأخ، بنت الأخت، أم الزوجة، أخت الزوجة جمعا، حليلة الابن من الصلب، الربيبة من المدخول فيها، و المحصنات

من النساء اللاتي لهنّ بعل.

السادس: لا يجوز النظر الي ما ذكر من المحرّمات ريبة كغيرهنّ، نعم يجوز بدونها الي غير العورة في المحصنات ذات بعل.

السابع: يجب الاعتزال عن النساء حال ابتلائهنّ بأذي الحيض بترك المواقعة،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 51

و لا بأس بالاستمتاع بهنّ بغيرها في الحال، كما لا بأس بها بعد رفع الأذي و قبل الغسل و يكره شديدا إتيانهنّ في الدبر.

الثامن: الظهار و هو أن يقول لزوجته: (أنت عليّ كظهر أمي) لا يوجب الحرمة الأبدية و لا يجعلها أمّا له، بل لا بدّ من الكفّارة عنه بعتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا مرتّبا لا مخيّرا.

التاسع: التبنّي لا يوجب البنوّة، فلا تحرم زوجة المتبنّي المطلّقة علي المتبنّي بلحاظ الأم أو منكوحة الأب، فان دعاء الغير لشخص ابنا لا يجعله كذلك.

العاشر: زوجات النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أمّهات المؤمنين شرعا، فهنّ محرّمات عليهم أبدا.

و في ختام الفصل: يكره نكاح الزانية دواما و منقطعا، كما يكره تزويج الزاني كذلك.

نتيجة البحث الخامس

و لآيات الفصل الخامس فروع أيضا، هي:

الأول: يجب علي المرأة إطاعة زوجها، و التحفّظ علي نفسها و علي ماله أيضا، و يحرم عليها النشوز، و يجب علي الرجل الإنفاق عليها و تأمين معاشها حسب شأنها عرفا.

الثاني: علي الزوج موعظة زوجته اذا نشزت، ثم هجران مضجعها، ثم ضربها من غير بغي للتأديب و الإصلاح، ثم التحاكم لدي حكم من أهله و حكم من أهلها، و بالنهاية التفريق دون البغي عليها و تعليقها، و علي الزوجة طلب الإصلاح اذا خافت من بعلها نشوزا، و إلّا التفريق دون البغي عليه، و إن كان الرجل هو القوّام و الأمر بيده.

الثالث: لا بدّ و أن

تكون الرابطة بين الزوجين قائمة علي الصفاء و المودّة و التعاون ليهنئا و ليتمتع كل واحد بالآخر، و ليكن ذلك من طرف الزوج ابتداء

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 52

و استدامة، فان النساء- كما قيل- طائلات الشعور «1» و قاصرات العقول، و قد أشير الي الثاني بعنوان النقص في السنّة الشريفة.

خاتمة المطاف ثمرة الزواج (الولد)

اشارة

إن من أطيب ثمار الزواج بعد السكون هو الولد، فعلي أساس التحفّظ عليه و بقاء النسل و طهارته يكون النكاح مشروعا طبيعيا و مرغوبا فيه فطريا في كل مجتمع و ملّة..

ألّا تري ما في حقيقة النكاح من اختصاص المرأة بالرجل و منعها من تمكينها للغير من الرجال و ان ذلك يعد سفاحا و خيانة، دون اختصاص الرجل بالمرأة لدي العقلاء، حتي غير المتديّن منهم و تزوّجه بامرأة أخري لا يعدّ خيانة و سفاحا، و الأمر كذلك في الاسلام إمضاء مع تضييق و توسعة، كل ذلك صيانة علي الماء و النطفة و تحفّظا علي الولد، و لا ينحصر الأمر بدوران الحمل و تكامل الجنين الي أن يتولّد بل الي أن يصير فردا مستقلا.

قال تعالي:

وَ الْوٰالِدٰاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلٰادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كٰامِلَيْنِ لِمَنْ أَرٰادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضٰاعَةَ وَ عَلَي الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لٰا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلّٰا وُسْعَهٰا لٰا تُضَارَّ

______________________________

(1)- و من المعلوم أن التعبير كان للنساء السالفات في الزمن السالف اللاتي كان طول شعورهنّ زينة لهنّ و فضيلة علي الخلاف لما هو المعمول المتداول في زماننا، فان قصره زينة رائجة بين جميع طباقتهن من المحجّبات و السافرات و لا يكون في كثير منهنّ أطول من شعر الرجال و لا سيما بالنسبة الي المتداول أخيرا بين جمع من الفتيان المقلّدين للأوروبيين، الكاشف كل ذلك عن خفة و

عدم تشخيص في مثل تلك الأمور.

و الاسلام يريد استقلال أمّته و علوّ كيانها في جميع الأمور حتي في مثل ذلك، و لذلك شرّع لهم آدابا و رسوما في كل شئونهم حتي في التزيّن و لبس الألبسة الجيدة النظيفة و شبهه.

كل ذلك إن كان المراد من الشعور ما هو جمع: (شعر) لا مصدر: (شعر) حتي يكون المراد الإحساس قبال الإدراك كما لا يبعد.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 53

وٰالِدَةٌ بِوَلَدِهٰا وَ لٰا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَي الْوٰارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ فَإِنْ أَرٰادٰا فِصٰالًا عَنْ تَرٰاضٍ مِنْهُمٰا وَ تَشٰاوُرٍ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلٰادَكُمْ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِذٰا سَلَّمْتُمْ مٰا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

(البقرة [2] الآية 234)

الآية الكريمة تدلّ علي أمور:

الأول: إنّ الوالدات بما هنّ والدات فهنّ زوجات أيضا أو مطلّقات يجب عليهن- مؤكّدا بالجملة الخبرية- أن يرضعن أولادهنّ حولين كاملين- و إن تمكّن المولود من التغذّي بغير لبن الأم أو لبن غيرها- لمن أراد أن يتم الرضاعة، و إلّا فلا بأس بالأقل منهما أو أكثر بقليل يصدق معه حولين عرفا كشهر أو شهرين، فان إرادة الإتمام قيد لكمال الحولين لا لأصلها، و الإيجاب ذلك علي الأمهات تحفّظا علي سلامة الأولاد و رشدهم جسما و روحا، فانه لن يعوّض شي ء عن الإرضاع من ثدي الأم في تقوية الولد؛ جثّته حسب التناسب الدقيق المودع بيد القدرة في جهاز تغذيته الشاملة لكل ما يحتاج إليه البدن بمقدار، و روحه بامتصاصه عواطف الأم التي هي أرقّ العواطف و أطيبها مع امتصاصه الثدي، و لا ينوب عن ذلك شي ء حتي تغذية لبن الأم من غير ثديها، كما صرّح به أهل

الفنّ من العلوم الحيويّة و النفسية في بناء شخصية الطفل.

الثاني: إن المولود له، و هو الأب يجب عليه رزق الوالدات و كسوتهنّ بالمعروف من غير تكلّف عليه، فانه لا تكلّف نفس إلّا وسعها، و بما أن الأب (المولود له) يجب عليه ذلك- زوجا كان للوالدة أو لا بأن طلّقها- و كذلك الوالدات بما هنّ، لهنّ الرزق- سواء زوجات كنّ أو مطلّقات- فالإيجاب هنا علي ملاك رابطة الوالدين مع الولد فكأن رزق الوالدة و كسوتها بالمعروف رزق للولد حقيقة، و بالتقابل يعلم ان الإيجاب بذلك الملاك يكون ما دامت الأم ترضع ولدها لا مطلقا، و ان صدقت عليها الوالدة بل الزوجة فانه لا بدّ لوجوب نفقة الزوجة علي الزوج من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 54

التماس دليل آخر دون الآية الكريمة كما عن البعض. نعم تدلّ علي وجوب نفقة الولد علي الوالد رزقا و كسوة بالمعروف حتي بعد الحولين فانه فيهما كان الإنفاق علي الوالدة- كما مرّ-.

الثالث: انه لا بدّ و أن لا يضرّ كل من المولود له (الأب) و الوالدة (الأم) الآخر بسبب الولد. فعلي الأب مراعاة ما عليه من الرزق و الكسوة و سائر حقوقها المقرّرة «1» و قبول رضاعها للولد فلا يأخذه لترضعه غيرها، و لا يمنعها من الرزق و الكسوة و سائر الحقوق المقررة. و علي الأم- في الضمن- مراعاة الميسور و المتعارف في طلب الرزق و الكسوة و قبول إرضاع الولد، فلا تضرّه بطلب الزائد أو عدم إرضاع الولد كما هو، فيتضرر الولد و الوالد بسببه. و مع ذلك كلّه لا يضرّ كل منهما الولد أيضا بمنعه عن ارتضاعه من أمّه اذا كان له أصلح من غيرها، أو منعها عن ارتضاعه من

غيرها اذا كان له أصلح أيضا، فان المنهيّ عنه إضرار كل من الوالدين الآخر و الولد بسببهما، و لا بأس بإرادة المعنيين فيكون تضار بمعني تضارّ أو تضرر.

الرابع: انه علي وارث المولود له (أي الأب) مثل ما كان عليه من حرمة إضرار الأم بسبب الولد و إضراره أيضا بانتزاعه عنها ليرتضع غيرها مجانا أو من مال الولد بل مع إعطاء المرضعة شيئا للمرتضع لغرض عقلائي مع أصلحية ارتضاعه من الأم لشرافتها و طيبها و سلامتها عن ذلك فان ذلك الانتزاع في مثل الظرف ضرر علي الأم و الولد ليس للوارث ذلك، كما لم يكن للأب، من غير فرق بين أن يكون لذلك الوارث ولاية عليه أيضا مثل الأب و الجد أو لا، بل كانت دخالته بعنوان آخر مع انطباق قاعدة: (لا ضرر..) الكلية علي الصورة الثانية أيضا.

ثم لا يبعد شمول إطلاق مثل ذلك في الآية الكريمة لوجوب الإنفاق علي

______________________________

(1)- فلا يتركها معلّقة غير موطوءة باسم الولد، و ان المباشرة تضرّ الولد حال الحمل و الإرضاع، كما نقله الأردبيلي رحمه اللّه عن قانون الشيخ رحمه اللّه في كتاب الزبدة/ ص 559، و لو سلّم فيقدّم الأهم أي الأقل ضررا به أو بها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 55

الوارث أيضا فان نفقة الولد في ماله إن كان غنيّا و في بيت المال إن لم يكن، فعلي الوارث تولّي رزق الوالدة و سكناها بالمعروف ما دامت ترضع الولد و لو من ماله- سواء كان ذلك الوارث المتصدّي متولّيا شرعيّا أيضا أو جعلا كوصيّ الأب، أو لم يكن- و لا يضرّ ذلك ان الأمر بالإنفاق في المورث بمعني وجوبه من ماله و في الوارث به معني وجوب التصدّي من مال

الولد أو غيره، كما هو ظاهر.

و حيث لا مسئولية لوارث الأم في الحكم الذي كان عليها من وجوب الإرضاع و حرمة الإضرار بسبب الولد به و بالوالد و بوارثه المتصدّي لأموره، فإنّ عهدة المرتضع بعد موت أمّه علي أبيه أو وارثه كما كان قبله، فلا يشمل كلمة الوارث في قوله تعالي: وَ عَلَي الْوٰارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ لوارث الأم و إن كان يمكن تصوّر إضراره الأب أو وارثه أو الولد بدخالته في أموره علي خلاف مصلحته، بل يمكن تصدّيه للإرضاع باستيجار المرضعة و اختيارها علي خلاف المصلحة، كما اذا لم يكن له أب و لا وارثة، إلّا أن ذلك يردّه قاعدة (لا ضرر..) الكلية و هي: «لا ضرر و لا ضرار في الاسلام»، فان قوله تعالي: لٰا تُضَارَّ وٰالِدَةٌ بِوَلَدِهٰا وَ لٰا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ راجع الي ما كان من الأحكام المبحوث عنها من وجوب الإرضاع علي الأم و وجوب النفقة علي الأب و حرمة الإضرار كل واحد بالآخر و بالولد، و أما حمل الوارث علي نفس الأم بمعني الباقي كما عن الفاضل المقداد (رحمه اللّه) فخلاف الظاهر، مثل سائر الاحتمالات المذكورة في كلام المحقق (رحمه اللّه) في كتابه (الزبدة) كما لا يخفي.

الخامس: إنّ المولود له (و هو الأب) و الوالدة (الأم) إن أراد فصالا و انقطاعا للولد عن الإرضاع قبل الحولين أو بعدها عن تراض منهما و تشاور لا يخصّهما و لا يعنيهما فلا جناح عليهما، ما لم يكن ضررا علي الولد، كما انه لا جناح علي الأب نفسه فقط إن أراد أن يسترضع ولده من غير أمّه اذا أدّي أجرة الإرضاع بالمعروف، و لم يكن ضررا علي الولد ماليا و جسميّا، فاتقوا اللّه تعالي

في ذلك، لئلا يكون إضرارا من كل واحد بالآخر أو بالولد، و اعلموا أن اللّه بما تعملون من أداء حقوق كل واحد

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 56

للآخر و حقوق الولد أو تركها بصير يري ما ترون من المصلحة و ما تعملون وفقها لمنفعة الولد و إطاعة اللّه تعالي أو خلافها لمنافعكم و اتباع الهوي.

و من ذلك يعلم أولا: أن وجوب إرضاع الأم ولدها المدلول عليه بصدر الآية الكريمة لا يكون ابتداء بل بعد توافقهما عليه بالتراضي و التشاور و بعد عدم إضرار كل واحد الآخر و الولد أيضا، و مع ذلك للأب أن يسترضع لولده من غير أمّه، فتدلّ علي أن ذلك الواجب فيما كان لا يكون مجانا و بلا عوض، و لها ان تطلب الأجرة زائدا علي الرزق و الكسوة ما دامت ترضع ولدها و لو كانت مطلّقة.

و ثانيا: ان (علي الوالدات أن يرضعن أولادهنّ حولين كاملين، و علي الأب أن يسترضع لولده غير الأم) لا يكون إلّا فيما اذا كان ذلك مصلحة للطفل لا مطلقا، لحرمة إضرار كل واحد منهما بالولد أيضا، و ترك صلاحه نوع من الضرر، فالواجب عليهما رعاية مصلحة الطفل مطلقا.

تذييل: في الفروع المستفادة من الآية الكريمة في ثمرة الزواج (الولد):

الأول: يجب علي الأم إرضاع ولدها من ثدييها مهما أمكن حولين كاملين عرفا، لمن أراد أن يتمّ الرضاعة فلا تضرّ الزيادة و النقيصة بقليل.

الثاني: يجب علي الأب رزق الوالدة و كسوتها بالمعروف ما دامت ترضع ولدها، كما يجب علي الأب نفقة الولد أيضا مطلقا و كسوته في الحولين.

الثالث: للوالدة أن تطلب الأجرة ازاء ارضاعها الولد، زائدا علي الرزق و الكسوة- زوجة كانت أو مطلّقة.

الرابع: للوالد أن يسترضع لولده غير أمّه اذا كان ذلك أصلح كما اذا كانت أشرف و

أطيب، أو كانت الأم خبيثة أو مريضة، فيجب عليه أداء الأجرة اذا كان ذلك بالإجارة.

الخامس: يحرم إضرار كل من الأب و الأم الآخر أو الولد بسببهما، فعليهما

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 57

رعاية مصلحة الولد و ان خالف صلاح أحدهما.

السادس: يجب علي وارث الأب في الولد كلّ ما كان يجب علي مورثه من الإنفاق علي الأم و لو من مال الولد، و يحرم عليه ما كان حراما عليه- سواء كان وليّا شرعيا أو لا- و يسقط عنه التكليف بعد تصدّي الوليّ الشرعي كالأب و الجد، أو الجعلي كالوصي اذا لم يكن وليّا.

السابع: للأب و الأم مع التشاور و التراضي فصال الولد عن لبن الأم و تغذيته بلبن غيرها أو غير لبنها من أنواع المسحوق.. كل ذلك اذا لم يكن ضررا علي الولد بوجه من الوجوه، فيجب عليها مراعاة مصلحة الولد من جميع الجهات، فلا يجوز إرضاعه من أخبث أو أضعف، أو تغذيته بأهون مع وجود الأشرف و الأطيب و الأقوي و يسار الوالد أو الولد كما هو ظاهر.

الي هنا أختتم بحمد اللّه تعالي و عونه كتاب النكاح ما يسمّي بالعهد الوثيق (الزواج) و تحقيقه و ما يترتّب عليه من الآثار و الحمد للّه أولا و آخرا و نستعين به علي التوفيق، و يتلوه كتاب التسريح بعون اللّه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 59

كتاب الطلاق

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 61

الطلاق

التسريح و الطلاق:

من المعلوم ان النكاح ميثاق وثيق لا ينتقض بشي ء من الوهم أو من العناء، فانه ميثاق الحياة و العيش، و ميثاق السكون و الأمن و الأسرار، و ميثاق التلبّس بخير لباس، الساتر للعيوب و الظاهر للكمال و الجمال.

قال تعالي:

.. وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً … (الروم [30] الآية 21)

و قال أيضا:

هُنَّ لِبٰاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبٰاسٌ لَهُنَّ … (البقرة [2] الآية 187)

و من المعلوم أنّ هذا الميثاق يقتضي البقاء و الدوام و يخالف القطع و الفصل، لذا يكره الطلاق و الانفصال بلا وجه عقلائي و شرعي أيضا.

و في الكتاب فصول:

الفصل الأول: ما يدلّ علي كراهيّة الطلاق و جوازه

اشارة

و فيه آيات: الأولي- قال تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسٰاءَ كَرْهاً وَ لٰا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 62

بِبَعْضِ مٰا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلّٰا أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عٰاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسيٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً* وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدٰالَ زَوْجٍ مَكٰانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْدٰاهُنَّ قِنْطٰاراً فَلٰا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً* وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضيٰ بَعْضُكُمْ إِليٰ بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثٰاقاً غَلِيظاً.

(النساء [4] الآيات 19- 21)

تقول الآية الكريمة لا يحلّ للمؤمنين أن يرثوا النساء كرها، و تنهاهم عن عضلهنّ ليذهبوا ببعض ما آتوهنّ من صداق، و بكلّه الأولوية، و من المعلوم أن الإرث المنهي عنه لا يكون عن موت، فان المفروض الإلهي الذي يرثه الزوج عن زوجته حق مشروع جعله اللّه تعالي له هنيئا مريئا من نصف أو ربع علي ما سيأتي بيانه في محلّه إن شاء اللّه تعالي، فهو في المقام بمعناه

العرفي أي التملّك بوجه فصّلته الجملة التالية من الانعضال عن الزوجة و البغي عليها في حقوقها حتي ترضي بترك صداقها لزوجها كلا أو بعضا ليرافقها أو يسرّحها فان التملّك و التوارث بهذا الوجه منهيّ عنه لا يحل و لا يجوز.

ثم أكّدت الآيات المباركة النهي و الحرمة ثانية فيما اذا أراد اسْتِبْدٰالَ زَوْجٍ مَكٰانَ زَوْجٍ بأن يطلّقها و ينكح غيرها مكانها، فتنهي الآية الكريمة عن أخذ شي ء من صداقهنّ مهما كان و لو قنطارا واحدا، و ان التهاون بهنّ من تركهنّ العفّة اعتذارا لأخذ ذلك الشي ء أو طلاقهنّ، لهو إثم مبين و ذنب عظيم، فان النكاح ميثاق غليظ لا ينتقض بشي ء، و عهد متين لا يتخلّف عنه.

و الذي تراه من جمع الآيات الكريمة هو النهي عن الطلاق بلا عذر و وجه وجيه، و أن النكاح ميثاق غليظ، و علي المتعاهدين الوفاء به و الصبر عليه و التحمّل لما يخالف ميلهما و رغبتهما، فانه عسي أن يكرهوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً، أكثر ممّا يتوهّمه الزوج في مال زوجته، أو الزوجة في الخلاص و الراحة في حلّ العقد و نقض الميثاق من الولد و تشكّل الأسرة و السعة فيها و بها التوفيق للخيرات،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 63

فالطلاق مكروه مرغوب عنه، و كما في السنّة المباركة: «إنّ أبغض الحلال الي اللّه تعالي الطلاق».

ثم ان الانقطاع و الانفصال بلا عذر بين الزوجين و إن كان مبغوضا منفورا إلّا ان الخلاف بينهما قد ينتهي الي حدّ لم يبق طريق للجمع بينهما إلّا التفريق، فلا بدّ و أن يكون جائزا في الجملة «1»، بل و قد يكون محبوبا راجحا لئلا تصعب الحياة عليهما و تشقّ، فيعذّبان بالبقاء معا

و بعذاب النار أيضا، و قد أمضي الشارع المقدّس هذا النوع من الطلاق، و في بيانه آيات كريمة، هي:

الثانية- قوله تعالي:

وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلٰا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَ إِنْ يَتَفَرَّقٰا يُغْنِ اللّٰهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَ كٰانَ اللّٰهُ وٰاسِعاً حَكِيماً. (النساء [4] الآية 139- 130)

إنّ اللّه تعالي بعد الإخبار بواقع كلّي خارجي و هو عدم رعاية الرجال العدالة بين النساء مطلقا «2»، بل عدم استطاعتهم علي ذلك، علي سبيل الجمع الذي لا ينافيه، بعد ذلك كلّه ينهي تعالي عن الميل و الانحراف عن الحق بترك المرأة معلّقة لا هي ذات بعل تسكن إليه و لا هي مسرّحة تخطب زوجا جديدا آخر. فتقوي اللّه تعالي و العفو عمّا يوجب الخلاف و طلب الإصلاح لإعادة العيش الرغيد و الصفاء المديد لهو خير مطلوب و خير مرغوب محبوب، فان اللّه كان غفورا رحيما.

و المفروض بالمؤمن أن يتّصف بصفاته تعالي، فيعفو و يرحم حتي يجمع اللّه تعالي بينه و بينها علي خير. و مع ذلك كلّه فان لم يتفقا معا و لم يجتمعا، فلا يتوهّم كل

______________________________

(1)- خلافا لما في المذهب الكاثوليكي المسيحي المحرّف من تحريم الطلاق مطلقا كما في انجيل مرقس/ صحاح/ 10/ الآيتان/ 8 و 9 نقلا عن كتاب (فقه السنّة) ص 245.

(2) من غير اختصاص به أزواج و زوجات، بل يشمل الزوج و الزوجات، و الزوج و الزوجة، و مع ذلك لا يتمّ الاستدلال بها علي عدم جواز تعدد الزوجات كما عرفت في كتاب النكاح.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 64

منهما أن في الانفصال هلاكا و دمارا، أو هلاك

أحدهما و خسرانه، و ان حياته و سعادته بيد الآخر، فيقول الثاني له: لو لم أكن لما كنت تقدر علي العيش و الحياة و كذا و كذا.. الي غيره من الكلام الذي لا اعتبار له، فلا يتوهّم أحد ذلك، بل إن يتفرّقا يغن اللّه تعالي كلّا من سعته و هو تعالي حكيم واسع الرحمة، وَ لٰا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.. راجع (البقرة [2] الآية 231).

الطلاق قبل التّماس

الثالثة- قوله تعالي:

لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ مٰا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَي الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَي الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتٰاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَي الْمُحْسِنِينَ* وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مٰا فَرَضْتُمْ إِلّٰا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْويٰ وَ لٰا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. (البقرة [2] الآيتان 236- 237)

الآية المباركة أصرح من الآية السابقة في الدلالة علي جواز الطلاق و مشروعيته في الجملة، فانها تصرّح بنفي البأس و الجناح في الطلاق قبل مسّهنّ و التصرّف فيهنّ، كالذي بعد العقد بأيّ وجه شاء فهو مكروه مؤكّدا و إن كان بلا وجه وجهة وجيهة بمقتضي الجمع مع الأولي.

و في المقام أحكام أخري مجملها إنّ الطلاق و إن كان بيد من أخذ بالساق قبل أخذه به و بعده، إلا أن العدل و الكرامة بين الزوجين يقتضيان استمتاع كل واحد من الآخر، و التمتع بالعيش و ردّ الصداق المفروض أو المثل وفاء بالعهد الوثيق و الميثاق الغليظ، و إلّا فلا تمسكوهنّ ضرارا لتعتدوا عليهنّ و لا تجعلوهنّ معلّقات بل تسريح باحسان و ردّ المفروض

إليهنّ أو المثل إن كان ذلك بعد التصرّف فيهنّ، و نصفه إن كان قبله، أو التمتع بشي ء من المال علي الموسع قدره و علي المقتر قدره ممّا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 65

يتعارف إن لم يكن، أو ما يقتضيه الفضل و الكرامة اذا عفون أو عفا من بيده عقدة النكاح فلا تنسوا الفضل بينكم علي أيّ حال إنّ اللّه بما تعملون خبير بصير.

الفصل الثاني: في من يقع عنه الطلاق و ما يقع منه

اشارة

و فيه آيات؛ الأولي- قوله تعالي:

وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلٰاقَ فَإِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 227)

تفيد الآية الكريمة بأن الطلاق إيقاع لا بدّ و أن يقع مع العزم و القصد، فلا يقع بلا توجّه و إرادة، و لا يصحّ ممن لا قصد له و لا عزم شرعا و لا عرفا كالمجنون و الساهي و الخاطئ و كذلك الغضبان و المكره و الهازل و غير البالغ، فان اللّه تعالي يعلم ما في قلوبكم من الجدّ و الهزل أو الاختيار و الإكراه، و يسمع ما تنشئون و تقولون.

و إسناد العزم الي الأزواج فقط من غير دخل للزوجات كما في الإيلاء- علي ما سيأتي بيانه- فهو يدلّ علي كونه ايقاعا متحققا بالموقع و المنشئ فقط، كما هو ظاهر.

عدد الطلاق

الثانية- قوله تعالي:

الطَّلٰاقُ مَرَّتٰانِ فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ وَ لٰا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّٰا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّٰا أَنْ يَخٰافٰا أَلّٰا يُقِيمٰا حُدُودَ اللّٰهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا يُقِيمٰا حُدُودَ اللّٰهِ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ فَلٰا تَعْتَدُوهٰا وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ* فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلٰا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يَتَرٰاجَعٰا إِنْ ظَنّٰا أَنْ يُقِيمٰا حُدُودَ اللّٰهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ يُبَيِّنُهٰا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. (البقرة [2] الآيتان 229- 230)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 66

تعطي الآيات المباركة أمورا؛ منها:

إن الطلاق الذي يقع حسب العادة و الطبع و لا يعدّ لعبا و إضرارا مرّتان، بأن يطلّق الزوج زوجته المعقودة عليه المدخول بها، ثم يندم بعد ذلك علي ما عمل و يلتفت الي خطأه، فله استرجاعها قبل أن تنقضي عدّتها، أو يتزوجها بعقد جديد بعده؛

و حينئذ يصدق مرّة واحدة، ثم انه بعد مدة يطلّقها مرة ثانية لما ظهر بينهما خلاف و نزاع و توهّم انحصار طريق الخلاص بالطلاق، فطلّقها للمرة الثانية ثم ندم أيضا فله استرجاعها أيضا في عدّتها أو يعقد عليها بعدها، و حينئذ يصدق مرة ثانية- أي «مرّتان» - و هما رجعيان اذا كان الوصل بالرجوع، و بعد ذلك إن لم يتمكّنا من التوافق و العيش معا فطلّقها مرة ثالثة، عند ذلك لا تحلّ عليه و لا يجوز الرجوع إليها، أو العقد في العدّة بعدها إلّا أن ينكحها زوج آخر، فتري المرأة في زواجها هذا (الثاني) بعض الحقائق المشتركة و يري الرجل أيضا الاضطراب بعد الأمن، ثم إن طلّقها هذا الزوج (الثاني) فلا جناح عليهما (هي و الزوج الأول) أن يتراجعا، إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه تعالي، فان فلسفة تشريع الطلاق و علّة تجويزه هي حفظ كرامة الزوجين و هناءة العيش دون الإضرار و الإيذاء و التلاعب بحياة المرأة، كما حكي في شأن نزول الآية الكريمة، و هو أن رجلا قال لامرأته: (و اللّه لا أطلّقك لتبيني منّي، و لا آويك أبدا، قالت: كيف ذلك؟ قال: كلّما همّت عدّتك أن تنقضي راجعتك)، فنزل قوله تعالي:

الطَّلٰاقُ مَرَّتٰانِ و بعدهما فعلي الزوج إمساك بمعروف من أداء حقوقها و رعاية شئونها، أو تسريح باحسان من افتراق مع أداء حقّها المفروض أو تمتيعها بشي ء من المثل أو ما يقتضيه الفضل و الكرامة إن لم يكن في البين فرض.

نعم إن تغيّر الشروط و تحوّل الأحوال يورث التقرّب الي الواقعيات و البعد عن التخيّلات، فان من لم يؤدّبه الأبوان أدّبه الدهر و الزمان، فلو نكحها زوج آخر ثم طلّقها، و ظنّا بتلك

التغيّرات التي طرأت أنهما يقدران علي تحمّل مشاق العيش المشترك فيتمكّنان من إقامة حدود اللّه تعالي و أحكامه بينهما فلا جناح عليهما أن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 67

يتراجعا، و إلا فمع العلم ببقاء الحالة السابقة و انتهاء العقد الجديد الي الطلاق أيضا فليس ذلك عقلائيا و إن صحّ شرعا لوجود احتمال التوافق و لو في الجملة، و لذلك لو تكرر الثلاث ثلاثا مع تخلل الزوجين، تحرم عليه أبدا، كما في السنّة المباركة، لأنّه ملعبة لا حياة و لا زواج، اذا كان ذلك جائزا مطلقا.

الافتداء و البذل

و منها إنه لا يجوز أخذ شي ء من صداقهنّ ممّا آتيتموهنّ قبال الطلاق بالبغي أو التضييق عليهنّ حتي يرضين ببذل شي ء منه، إلّا فيما اذا افتدت به الزوجة بنفسها من غير إضرار، فان المرأة قد تري من نفسها أنها لا تقدر و لا تتمكّن عليه بوجه من الوجوه فلا تقدر هي علي اقامة حدود اللّه في الزوجية و تخاف في ابتلائها بالنشوز أو الفحشاء، فان النفس لأمّارة بالسوء، فتطلب من زوجها الطلاق و خلاص نفسها من عذاب الدنيا و شقاء الآخرة، فإن سرّحها فهو إرفاق و إكرام، و إلّا فلا جناح عليهما فيما افتدت به من صداقها بل الزائد عليه، فتهبه لزوجها ليطلّقها و لتخلّص نفسها منه، فلا جناح علي الزوج حينئذ في قبول ذلك فداء و عوضا لتسريحها و تخليصها عمّا وقعت فيه من مخمصة، و الأمر بيده، فان كان من جانبه النفور و الانزجار بحيث أنهما معا كانا يخافان أن لا يقيما حدود اللّه فيسمّي: «مباراة» لتبرّي كل واحد عن الآخر، و إلا فالخلع لإخلاع الزوجة ثوبها فانهنّ لباس لكم كما انكم لباس لهنّ، و تلك حدود اللّه فلا

تعتدوها، و من يتجاوزها بالإضرار أو التضييق عليهنّ لتفتدي عن حقها و نفسها فيأخذ ممّا أوتيت فقد ظلم نفسه و زوجته، و من يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظالمون.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 68

الطلقات الثلاث

و منها أن الثلاثة من الطلاق الموجب للحرمة حتي ينكحها زوج غيره لا يتحقق في مجلس واحد بذكر لفظ (الثلاث) من غير تخلل الرجوع و العقد، فان المرّة و المرتين لا يصدقان عليه بل و لا بتكرار الطلاق أيضا «1».

و منها: أنه لو نكح المطلّقة ثلاثا زوج آخر قاصدا طلاقها حين النكاح حتي تحلّ لزوجها الأول فلا بأس به و صحّ العقد و الطلاق لإطلاق قوله تعالي: حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يَتَرٰاجَعٰا، و يطلق عليه: (الزواج المحلل)، و علي عقده: (نكاح التحليل)، و لا يصغي الي ما عن بعض العامّة من دعوي انصرافه الي العادي فقط نكاحا و طلاقا توهّما منه أن ذلك و صمة علي جبين الاسلام ينافي شأنه و شرافته، فان الحكمة موجودة فيه أيضا و نعم الفرار من الحرام الي الحلال.

ثم انك عرفت ممّا ذكرنا أن الطلاق علي أربعة أقسام:

الرجعي، و البائن، و الخلع، و المباراة، و لكل واحد منها حكمه الخاص.

الفصل الثالث: شروط التسريح و الرجوع

و فيه آيات؛ الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ

______________________________

(1)- خلافا لجمع من فقهاء العامة القائلين بوقوعه ثلاثا مستدلين بأمور موهونة، و عن بعضهم وفاقا للشيعة أنّه يقع واحدة مستدلا بما عن رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): «أ يلعب بكتاب اللّه و أنا بين أظهركم» حين أخبر برجل طلّق زوجته بثلاث جمعا فقام غضبان و قال ذلك.

و القانون المصري في عصرنا الحاضر يعتبر لفظ الطلاق الثلاث طلاقا واحدا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 69

رَبَّكُمْ لٰا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لٰا يَخْرُجْنَ إِلّٰا أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ وَ مَنْ

يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لٰا تَدْرِي لَعَلَّ اللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً* فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ … (الطلاق [65] الآية 1- 2)

تحكم الآيات الكريمة أولا بأن الطلاق لا بدّ و أن يكون لعدّتهنّ، فلا بدّ من إحصاء عدّة النساء و تعداد أيّامهنّ حتي لا يقع فيما اذا كنّ مستبطنات الزوج إن كنّ مدخولا بهنّ فلا يصح الطلاق في طهر المواقعة بل لا بدّ من أن يحضن ثم يطهرن لإمكان الحمل مع الحيض و لو نادرا دون الحامل و غير المدخولة، فاتقوا اللّه تعالي في رعاية الحدود.

ثم ان الآيات الكريمة تنهي بعد الطلاق عن إخراجهنّ من بيوتهنّ ما دمن في العدّة، فانهنّ فيها زوجات حكما كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه، فيحرم خروجهنّ أيضا بلا إذن إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة فلا بأس باخراجهنّ.

و الحاصل إنّه بعد إحصاء العدّة و تحقق الشرط إما إمساك بمعروف و تحفّظ علي الأسرة برعاية الحقوق و الحدود أو تفريق باحسان من رعاية الأصول الشرعية و العرفية من ردّ الصداق أو تمتيعها بشي ء حتي يغني اللّه كلّا منهما من فضله الواسع.

فان أردتم الطلاق عليكم أن تستشهدوا عليه ذوي عدل منكم ليكون الطلاق بمحضرهما، و لكي لا يدّعي أحد طلاق زوجته أو نفي ولده بسهولة، و كذلك لكي لا تنكر المطلّقة الطلاق بسهولة أيضا لتلحق به الولد و تطلب النفقة، فلا يصح الطلاق بدون إشهاد عادلين، و عليهما تحمّل الشهادة ثم أداؤها للّه تعالي عند الاختلاف و الحاجة، فان اللّه علي كل شي ء شهيد. فالمطلّقة بدون إشهاد يحرم نكاحها مع العلم بأنها ذات بعل و ان اعتدّت

و انقضت عدّتها، و مع الجهل، و قد وطأت بالشبهة يجب الانفصال عنها لدي انكشاف الحال.

الثانية- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 70

وَ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لٰا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لٰا تَتَّخِذُوا آيٰاتِ اللّٰهِ هُزُواً وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ مٰا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتٰابِ وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ* وَ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلٰا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوٰاجَهُنَّ إِذٰا تَرٰاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كٰانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذٰلِكُمْ أَزْكيٰ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 231- 232)

تنهي الآيات المباركة- صراحة- عن الإضرار بالنساء و الاعتداء عليهنّ بترك حدود اللّه و أخذ آياته و أحكامه فيهنّ هزوا و لعبا، فاذا طلّقتم النساء و بلغ انتهاء أجلهنّ و عدّتهنّ فليس لكم عندئذ إلّا أحد الأمرين، و هما:

الأول: الرجوع قبل تمام الأجل و الإمساك بمعروف من رعايتهنّ و إعطاء حقوقهنّ لا سيّما من ناحية المضاجعة و المباشرة دون الإمساك إضرارا و اعتداء بالرجوع و الطلاق و هكذا.

الثاني: التسريح و الإطلاق بمعروف أي بعدم الرجوع حتي تنقضي عدّتهنّ و يبغين عندئذ زوجا آخر دون الإضرار و الاعتداء بعدم ردّ الصداق و الحقوق الاخري أو الرجوع و الطلاق كذلك.

هذا اذا كان المراد من قوله تعالي: طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فعليه الطلاق، و أما اذا كان المراد إرادته؛ فالمراد انه لا بدّ من التأمّل الي بلوغ الأجل في المدخولة الحائلة من الطمث و الطهر، و اذا بلغن أجلهنّ فأحد الأمرين إلا

أن ذلك ينافي الإطلاق الشامل لغير المدخولة و الحامل.

و كيف كان فمن تعدّي أحكام اللّه تعالي فيهنّ فقد ظلم نفسه و عليه العقاب، فاذكروا نعمة اللّه تعالي عليكم بالهداية و الإرشاد الي الأحكام التي فيها الخير و النجاة التي أنزلت إليكم من الكتاب و الحكمة إنّ اللّه يعظكم بها فاتقوه فيها و اعلموا أنّ اللّه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 71

بكل شي ء عليم يعلم و يري ما تعملون فيهنّ و في حقوقهنّ.

ثم انكم اذا طلّقتم النساء فبلغن أجلهنّ بانقضاء عدّتهنّ، فان تراضوا و توافقوا مرّة أخري علي النكاح و المزاوجة فلا تعضلوهنّ و لا تمنعوهنّ عن ذلك اذا كان بالمعروف مراعيا كل منهما حدود اللّه تعالي في حقّ الآخر، فان ذلك أزكي و أطهر من الميل إليهنّ و منعهنّ أن ينكحن أزواجهنّ لتناكحوهن، و قد اختبر كل منهما الآخر من قبل و حدث بينهما الفراق لحدّة نشأ منها التكامل و التعرّق في الأمور الداخلية العائلية فاتعظوا بذلك و تراضوا.

الفصل الرابع: إحصاء العدة

اشارة

ما يتعلّق في العدّة.

العدّة من تعديد الأيام و انتظارها الي أجل معيّن، و هي لا تكون إلا للمدخول بها عند الانفصال عن زوجها أو المتوفّي عنها زوجها مطلقا، و هو في الأولي ثلاثة قروء، يتحقق أكثر بثلاثة أشهر و عشرا إن لم تكن حاملا، و إن كانت حاملا فالي أن تضع حملها، و في الثانية: (أي المتوفّي عنها زوجها) أربعة أشهر و عشرا، أو أبعد الأجلين منها و من أن تضع حملها، و في الفصل آيات مباركة.

الاولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنٰاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمٰا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهٰا فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَرٰاحاً جَمِيلًا.

(الاحزاب [33] الآية 49)

فقه القرآن (لليزدي)،

ج 3، ص: 72

تفيد الآية الكريمة صراحة أن الطلاق بعد العقد و النكاح و قبل المسّ «1» لا يتوقّف علي انتظار الأجل و عدّ الأيام لئلا يقع في طهر المواقعة حيث لا دخول، فيجوز تمتيعهنّ بشي ء إن لم يكن في البين فريضة، و إلا فنصف ما فرضتم- كما وضّح- ثم تسريحهنّ سراحا جميلا من غير عناد و إضرار، و لها النكاح و التمتع من زوج آخر بلا انتظار للزمان و تعديد للأيام، فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّونها.

و أنت تعلم ما في التقييد من إشارة بل صراحة الي رمز الاعتداد و سرّه من التحفّظ علي الماء و الولد، فحيث لا لمس و لا دخول فلا ماء و لا تحفّظ و لا عدّة، و حيث كان لا يصحّ الطلاق في طهر المواقعة، و كما عرفت لا بدّ من الطهر بعد الطمث لاحتمال جمع الحيض و الولد فيشترط في طلاق المدخولة خلوّها من الحيض دون غيرها، و أما العدّة التي عليها فلجواز تزوّجها من غيره- كما تري-.

حرمة كتمان النطفة

الثانية- قوله تعالي:

وَ الْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلٰاثَةَ قُرُوءٍ وَ لٰا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذٰلِكَ إِنْ أَرٰادُوا إِصْلٰاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجٰالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. (البقرة [2] الآية 228)

الآية الكريمة تحكم- بلسان الإخبار- علي المطلّقات بتربّص ثلاثة قروء، فلا يجوز لهنّ قبل انقضائها النكاح بزوج آخر، و الإطلاق مقيّد بالآية السابقة، فيختصّ الحكم بالمدخولة كما يؤيده تناسب الحكم و الموضوع، بل يدلّ عليه لو كانت

______________________________

(1)- و هو كناية عن الدخول لا مطلق المس و ذلك من أدب

القرآن الكريم كما عرفت في كتاب الطهارة عند قوله تعالي: «.. أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ» و كما تري في قوله تعالي أيضا: «فَلَمّٰا تَغَشّٰاهٰا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً..» (الاعراف [7] الآية 189)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 73

السابقة راجعة الي شرط الطلاق لا الزواج مع غيره بعده، و كذلك تحكم الآية الكريمة عليهنّ بحرمة كتمان ما خلق اللّه تعالي في أرحامهنّ، فعليهنّ الإظهار و التربّص الي أن يضعن حملهنّ كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه، و بعولتهنّ أحقّ بردّهنّ من غيرهم قبل انقضاء العدّة بالرجوع أو بعده بعقد جديد- كما عرفت من قبل- إن أرادوا إصلاحا دون اعتداء، و ظاهر القيد عدم الجواز مع عدم إرادة الإصلاح، و لا أقول: مع إرادة الإفساد و الإضرار المنهيّ عنهما مكررا لو لا الاجماع علي الجواز و كأنّه عدم التعرّض للحكم الوارد عن الأصحاب لا الإنفاق علي الجواز، و لعلّ المراد من إرادة الإصلاح عدم إرادة الاعتداء لبعد الواسطة بل عدمه- كما لا يخفي-.

ثم ان للمطلّقات في أيام القروء الثلاثة الإحسان و المعروف و الخير مثل الذي عليهنّ فانّهنّ في تلك الأيام بحكم الزوجة فلهنّ النفقة و المسكن، و عليهنّ حفظ النفس و مال الزوج و عدم الخروج من بيته بغير إذنه، و عليهما مراعاة الكرامة و الفضيلة و إن كان في ذلك كلّه للرجال عليهنّ درجة من القوام و الفضل، فعليهم مراعاة جانبهنّ أكثر- كما تعلم- و اللّه عزيز حكيم.

احصاء العدّة

الثالثة- قوله تعالي:

وَ اللّٰائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسٰائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلٰاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللّٰائِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولٰاتُ الْأَحْمٰالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً. (الطلاق [65] الآية 4)

التقييد بالارتياب يفيد

أن ما عرفت من الاعتداد بثلاثة قروء كانت بحسب الزمان و لم يكن في المعلوم حيضها غير المرتابة، و أما مع الارتياب بانقطاع الحيض و احتمال اليأس لكبر أو عارض كاللاتي لم يحضن و هنّ في سنّ من يحضن فعليهنّ التربّص بثلاثة أشهر فحسب بحسب الزمان، و أما أولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 74

حملهنّ سواء كان بعد الطلاق بشهور أو شهر أو أقل.

و أما اللاتي يئسن من المحيض و الارتياب فلا عدّة عليهن كالصغيرة، و إن ذهب الي ثبوتها لهما بعض الأصحاب تبعا للعامة، و نفي عنه البعد المحقق الأردبيلي (رضوان اللّه عليه) في كتابه: زبدة البيان/ ص 595 أولا ثم نفي باعتبار السنّة المباركة، و قد عرفت أن الآية الكريمة بنفسها تفيد ما أفادته السنّة المباركة.

الرابعة- قوله تعالي:

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لٰا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولٰاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّٰي يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعٰاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْريٰ.

(الطلاق [65] الآية 6)

الآية الكريمة برجوع ضميرها الي المطلّقات تدلّ علي أن لهنّ السكني (السكن) من مساكن أزواجهنّ حسب الوجدان و الإمكان، و ظاهر الإنفاق الأعم من المسكن مثل ما كان لهنّ قبل الطلاق- كما عرفت- من قوله تعالي: وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، فليس للأزواج التضييق عليهنّ باخراجهنّ من البيوت و ترك الإنفاق عليهنّ، و الأمر في الرجعيات منهنّ قبل انقضاء العدّة ظاهر فانهنّ زوجات و أولات حمل تابعات الي أن يضعن حملهنّ، فعليهنّ مراعاة ما علي الزوجات و لهنّ ما لهنّ من عدم الخروج من البيت بغير إذن أزواجهنّ و استحقاق النفقة لنفسها أو بملاك

الولد، و الإطلاق و ان كان يشمل البائنة أيضا إلّا أن الملاك هو التبعية لا يشملها فتخصص بالآية الكريمة كما صرّحت به السنّة المباركة أيضا.

ثم إن أرضعن لكم زوجاتكم المطلّقات أولادكم بعد وضع حملهنّ فعليكم عندئذ إعطاء أجورهنّ حسب المتعارف و هو أقرب للحق الطبيعي للولد و الأم معا، و كما عرفت من قبل من آثار خاصة في لبن الأم، و إن لم يقبلن بدءا، أو يفرض مبلغا خاصا لذلك، و قد تعاسرتم في الحل فأتمروا في ذلك بتشاور و تبادل في الرأي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 75

و النظر يؤدّي الي قبول الأم إرضاع ولدها و آخر الطريق فسترضع له أخري، و لا بأس و إن كان ذلك لا يساعد طبع الولد بل الأم.

و مما لا بدّ لنا أن ننتبه إليه في الضمن أنه ورد الأمر بالائتمار و تبادل النظر و تعاون الفكر في كلّ مسألة جزئية حقوقية و غير حقوقية حتي تنتهي الي الحق أو قريبا منه، فكيف في مهام الأمور و كلياتها التي لا ائتمار فيها و لا رعاية للحدود و الأحكام؟ و هذه المؤتمرات هي التي لا بدّ منها في الحكومة الاسلامية أيضا.

المتوفّي عنها زوجها

الخامسة- قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. (البقرة [2] الآية 234)

توجب الآية الكريمة- بلسان الإخبار- تربّص أربعة أشهر و عشرا لمن توفّي عنها زوجها، فلا يجوز لها قبل انقضاء المدة و الأجل أن تتزيّن أو تتبرّج، و إن كان لا بأس بالخطبة و بما تكنّ في نفسها من علاقة و ذكر بعدها ما لم يكن

تواعد في السرّ إلا بالمعروف من مقاولة و غيرها- كما وضّح من قبل-، فاذا بلغن أجلهنّ بانقضاء الشهور و الأيام فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ و عليهنّ فيما فعلتم و فعلن بالمعروف المشروع، و المدة المذكورة بمثابة الحداد الذي قد أفتي بوجوبه المشهور من ترك التزيّن و التبرّج و كل ما تفعله صاحبة زوج لزوجها قبل الأجل.

و لكن لا يبعد استفادة كراهة التزيّن و التبرّج و الحداد مع بقاء التزوّج علي الحرمة بحكم الفرق بين مفاد الحرف: «في» و الحرف: «باء» من غير لزوم استعمال اللفظ في أكثر من معني علي ما فيه من كلام بتقريب أن مفهوم نفي الجناح بعد الأجل وجوده قبله مطلقا فيما يفعلن في أنفسهنّ أو بأنفسهنّ فيعمّ التزيّن و التزوّج، و لكن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 76

منطوق الصدر قيّد التربّص في المدة بما يفعلن بأنفسهنّ الظاهر في التزوّج و عند نفي الجناح بما يفعلن في أنفسهنّ الظاهر في التزيّن، فالجناح الثابت قبل الأجل يحمل علي الكراهة في غير التزوّج و الحرمة فيه و المعني المستعمل فيه الجناح واحد، و إن كان مقتضي الحكمة الأصلية و هو احترام المؤمن الاجتناب، فالحكم هو الكراهة الشديدة. ألا تري أن ذلك التربّص لا يختص بالمدخول بها، بل كل من توفّي عنها زوجها.

كل ذلك في غير أولات الأحمال، و أما هنّ فأجلهنّ أن يضعن حملهنّ سواء كان قبل انتهاء أربعة أشهر و عشر أو بعدها، و حينئذ فان كان قبلها لا سيّما في القليل منها فهل عليهنّ التربّص بأنفسهنّ الي انتهاء المدة المذكورة بمقتضي الإطلاق و الحكمة، أو لا بتقييد الإطلاق بعموم قوله تعالي: وَ أُولٰاتُ الْأَحْمٰالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، أو أبعد الأجلين من وضع الحمل

و انقضاء الشهور و الأيام بمقتضي الجمع بين الإطلاق و العموم و حفظ مقتضي الحكمة؟ فالأخير هو الحق لأن الجمع مهما أمكن أولي مع التصريح به في السنّة المباركة.

ثم إن أولات الأحمال المتوفّي عنهنّ أزواجهنّ لهنّ حق السكني و النفقة في أيام الاعتداد في نصيبهنّ و نصيب حملهنّ، و علي الورثة ذلك إن لم يكف نصيبهما، و لهنّ أيضا بعد وضع حملهنّ أجرة الرضاع في نصيبه، ثم علي الورثة لإطلاق قوله تعالي: وَ إِنْ كُنَّ أُولٰاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّٰي يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.

السادسة- قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوٰاجِهِمْ مَتٰاعاً إِلَي الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرٰاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِي مٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* وَ لِلْمُطَلَّقٰاتِ مَتٰاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَي الْمُتَّقِينَ.

(البقرة [2] الآيتان 240- 241)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 77

الآيتان الكريمتان تدلان علي أن الكرامة و روح الفضيلة تقتضي الوصية للزوجة زائدا علي مهرها و نصيبها من الإرث- بالمئونة المتناسبة من المسكن و غيره الي الحول ما لم تخرج من بيت زوجها حسب رغبتها، فهي التي تستّرت علي نفسها لزوجها خلال حياته، فلها ذلك الحق بعد العدّة ما دامت تراعي حقه الي الحول، و أما إن خرجن و لم يبقين علي وضعهنّ السابق بعد الأجل فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التبعّل و التزوّج بالمعروف؛ هذا في المتوفّي عنها زوجها، و كذلك الأثر في المطلّقات فلهنّ متاع بالمعروف زائدا علي حقوقهنّ الواجبة من المفروض أو نصفه أو المثل، فانهنّ كنّ أزواجا معاشرات متحمّلات لمشاقّ العيش، فتركهنّ اكتفاء علي الحقوق المقررة قانونا خلاف للفضيلة و الكرامة التي تكون حقا علي

المتقين، فذلك علي المتّقين بالحق في أزواجهم.

[النتائج]

نتيجة البحث الأول

فروع، هي:

الأول: لا يجوز عضل النساء و تركهنّ في المضاجع ذهابا بصداقهنّ كلا أو بعضا فلا تحلّ أموالهنّ لغيرهنّ كرها.

الثاني: يجب معاشرة الزوجة بالمعروف من أداء حقوقها الواجبة إليها بل المندوبة أيضا ثم بالكرامة و الفضيلة.

الثالث: يستحب للزوج و الزوجة تحمّل الكراهة و المشقّة في مورد الاختلاف في الأمور العائلية العادية دون التي تعني أحكام اللّه تعالي، ليجعل اللّه لهما خيرا.

الرابع: كما يحرم أخذ شي ء من صداق و أموال الزوجة بالتضييق عليها كذلك يحرم البهتان عليها بفاحشة، فانه إثم مبين و أكل بالباطل.

الخامس: الطلاق مبغوض مكروه، و انه أبغض الحلال.

السادس: يستحب الطلاق فيما اذا أتت الزوجة بفاحشة مبيّنة، بل في مطلق

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 78

ترك الواجب، و فعل الحرام اذا لم تنته بعد مراتبه المقررة.

السابع: لا يجوز الميل و الانحراف عن الحق في حقوقه بتركها معلّقة لا هي ذات بعل و لا هي مطلّقة حتي تتبعّل، فلا بدّ من الإصلاح و العفو في موارد الاختلاف علي مقتضي التقوي و مخافة اللّه تعالي، و الطلاق آخر الدواء.

الثامن: يجوز الطلاق بعد العقد، و حتي قبل المسّ و الدخول، فلا بدّ من ردّ نصف المفروض إن كان قبله، و تمامه إن كان بعده، و إن لم يكن في البين فرض مفروض، فلا بدّ من تمتيعهنّ بشي ء علي الموسع قدره و علي المقتر قدره أي مهر المثل، و مقتضي الكراهة اعطاؤهن شيئا اذا عفون عن حقّهنّ.

نتيجة البحث الثاني

فروع أيضا، هي:

الأول: الطلاق إيقاع، أمره بيد من أخذ بالساق و لا بدّ فيه من العزم و القصد، فلا يصحّ من غير القاصد كالساهي و الغالط و المجنون، و من لا قصد له شرعا و إن قصد كالمكره و الهازل و الغضبان

و غير البالغ.

الثاني: يجوز التوكيل في الطلاق كما في سائر العقود و الإيقاعات، فللوكيل ذلك مع بقاء حق الموكّل و حكومته عليه، كما هو مقتضي الوكالة، فله العمل أيضا علي وفاقه أو خلافه و الواقع المتقدّم منهما كما فصّل في محلّه.

فلا يصح توكيل الزوجة في تطليق نفسها حيث شاءت، أو اذا أمرت المحكمة العرفية علي وجه لم يبق للزوج حق عزل و تقدّم، فان ذلك خلاف حكم اللّه تعالي و شرعه لا خلاف الحق الذي جعل له، حتي يجوز له تركه لغيره، كما ان تقييد عقد النكاح بذلك أيضا غير صحيح و ان وقع المقيّد دون قيده.

و العجب كل العجب ممّن صحح ذلك توجيها، و لعلّه خوفا من السلطة القاهرة المبدعة في الاسلام الجائرة في المسلمين اللاعبة بأحكام اللّه تعالي و بحقوق

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 79

الناس بعنوان تحرير النساء و لو كان ذلك ما حقا للفقه الاسلامي الحنيف «1».

الثالث: الطلاق الجائز فيه الرجوع في العدّة أو التزوّج بعقد جديد بعدها مرّتان، فلا تحلّ المطلّقة ثلاثا إلّا أن ينكحها زوج آخر، ثم يطلّقها قاصدا الطلاق من حين النكاح أولا، فلا بأس عندئذ أن يتراجعا إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه، فلا ينبغي نكاح المطلّقة ثلاثا بعد ما طلّقها المحلل مع ظنّ بقاء الحالة السابقة بينهما فان ذلك ملعبة لا نكاح و طلاق.

الرابع: لا يقع الطلاق المتعدد بذكر العدد في جلسة واحدة من دون تخلل الرجوع أو العقد من غير فرق بين ما اذا واقعها بعد كل رجوع أو عقد أو لا بعد تحقق شروط الطلاق.

الخامس: لا جناح علي المرأة فيما افتدت به لزوجها حتي يطلّقها و يخلع عن نفسه لباس نكاحها فيما تخاف أن لا

تقيم حدود اللّه، كما لا جناح علي الزوج في أخذ ذلك و طلاقها، سواء كان الأمر من جانبه أيضا كذلك أو لا، فلا ينبغي ذلك دون وجه وجيه، و لا رجوع للزوجة إلا أن ترجع الزوجة في فديتها.

نتيجة البحث الثالث

فروع أيضا، و هي:

الأول: يشترط في صحة طلاق المدخول بها أن تكون في طهر غير طهر المواقعة بأن تطهر بعد الطمث و لو قبل الغسل.

الثاني: المطلّقة الرجعية زوجة ما دامت في العدّة، فلها النفقة و السكن و سائر الأحكام التي تخصّها، فلا يجوز إخراجها من البيت إلا أن تأتي بفاحشة مبيّنة توجب

______________________________

(1)- و لقد كافح أعاظم علماء الاسلام (رضي اللّه عنهم) سالفا و (أدام اللّه بقاءهم) حاضرا و في طليعتهم استاذنا الأفخم كهف الاسلام و ملاذ المسلمين آية اللّه العظمي الإمام الحاج السيّد روح اللّه الموسوي الخميني (أدام اللّه تعالي ظلّه الوارف علي رءوس المسلمين) فانه كافح البدع و المقررات المخالفة للدين مهما كانت و في أيّ طريق و زمان، فراجع تاريخ زماننا و حوادثه الهائلة المؤلفة تجده مخبرا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 80

الحدّ لا مطلق ارتكابها الحرام أو تركها الواجب.

الثالث: يجب إشهاد ذوي عدل حال الطلاق، فلا يصح بدونهما، و يحرم نكاح المطلّقة كذلك، فانها ذات بعل، فيجب الفراق و الانفصال لو انكشف الحال من عدمهما أو عدم عدالتهما.

الرابع: يجب علي الشهود بعد تحمّلهما الشهادة الأداء لدي الحاجة عند الحاكم الشرعي.

الخامس: يحرم إيذاء النساء بتركهنّ معلّقات، فإما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

السادس: المطلّقة بعد انقضاء العدّة أجنبيّة لا بدّ في نكاحها من عقد جديد، و أزواجهنّ أحقّ بردّهنّ، فيحرم منعها عن الزوج مع زوجها الأول بعد توافقهما.

نتيجة البحث الرابع

اشارة

فروع أيضا، هي:

الأول: لا عدّة لغير المدخولة، و بملاكها الصغيرة و اليائسة، فله طلاقها حيث يشاء، و لها التزوّج بغيره بعده حيث تشاء.

الثاني: علي المطلّقات بعد المسّ و الدخول تربّص ثلاثة قروء، فلا يجوز لهنّ قبل انقضائها النكاح من زوج آخر.

الثالث: لا يحلّ علي المطلّقات أن يكتمن

ما خلق اللّه في أرحامهنّ فيجب عليهنّ الإظهار ثم التربّص الي أن يضعن حملهنّ و لو بعد الطلاق بقليل، و بعولتهنّ أحقّ بردّهنّ إن أراد إصلاحا، و لا بدّ لكل منهما رعاية حقوق الآخر، و للرجال عليهنّ درجة برعايتها و رعايته أكثر.

الرابع: يجب علي المطلّقة المرتابة التي يئست من المحيض و هي في سنّ من تحيض، تربّص ثلاثة أشهر بحسب الزمان، فلا عدّة لليائسة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 81

الخامس: أولات الأحمال عدّتهنّ أن يضعن حملهنّ مطلقا.

السادس: يجب علي الزوج سكني المطلّقة و مئونتها ما دامت في العدّة، رجعية كانت أو ذات حمل من جهة نفسها أو ولدها.

السابع: عدّة المتوفّي عنها زوجها تربّص أربعة أشهر و عشرا من حين العلم بالوفاة، فلا يجوز لها التزوّج قبل الانقضاء، و يكره التزين و التطيّب و ما تفعله الزوجات لأزواجهنّ عرفا دون النظافة المتعارفة.

الثامن: أولات الأحمال المتوفّي عنهنّ أزواجهنّ عدّتهنّ أبعد الأجلين من أربعة أشهر و عشرا و من وضع الحمل، و سكناهنّ علي الورثة إن لم يكف نصيبها، كما ان عليهم أجرة رضاعها للولد إن لم يكف نصيبه، و إن لم يرضعن لكم فالتآمر و التشاور لدي الإعسار فسترضع له اخري، و علي المؤمنين الإنفاق و أداء الأجرة ثم علي بيت المال، فيحرم التضييق عليهنّ بترك ذلك.

التاسع: تستحب الوصية بتمتيع الزوجة من السكني و المئونة الي الحول إن لم تخرج عن بيت زوجها، أي بقيت علي حالها من دون تزوّج، و ذلك زائدا علي نصيبها المفروض، كما يستحب تمتيع المطلّقة بشي ء زائدا علي حقها من المهر أو نصفه أو المثل، فان ذلك كرامة و حق علي المتّقين.

وهم و دفع

تنبيه:

قد يتوهّم ان مقتضي الجمع بين الآيات الناهية عن الإضرار بهنّ

مؤكّدا و مكررا مع الأمر ببعث الحكم من الطرفين «1» للإصلاح؛ جواز تطليق القاضي الزوجة بدون

______________________________

(1)- كقوله تعالي: «فَلٰا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ» (النساء [4] الآية 129)، و قوله: «تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ فَلٰا تَعْتَدُوهٰا» بعد قوله: «فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ» (البقرة [2] الآية 229)، و قوله: «وَ لٰا تُمْسِكُوهُنَّ-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 82

رضا زوجها في موارد منها إضراره إيّاها كالضرب و السبّ و ترك النفقة، أو اعتياده بما لا يناسب شأن الرجل من حرام و غيره، أو غيبوبته و حبسه زمنا لا يحتمل عادة «1».

و قد أوضحنا من قبل ان النكاح ميثاق غليظ و عهد وثيق، لا ينتقض بسهولة، و لا يخلّ بشي ء من العناء و المشقّة، و ذلك عهد بينهما و لهما و عليهما، و لا يمكن أن يشعر و يحسّ غيرهما ما يشعران هما من خصوص عهدهما، فلا معني لجعل أمرهما بيد غيرهما، كما انه لا وجه لجعل أمره بيد امرأة كلّا أو بعضا.. التي تضطرب بشي ء و تسكن بشي ء آخر، تحسّ سريعا و تعقل بطيئا، فانه خلاف مصلحتها و مصلحة العائلة و المجتمع، و قد جعل اللّه تعالي أمرها بيد زوجها كما عرفت من ضمائر الآيات، و ذلك حكم من أحكامه تعالي لا أنه حق حتي يصح تفويضه أو إلقاؤه.

مع ان اختيار الحكمين في الآية الكريمة لم يتجاوز عن الإصلاح بينهما و ليس لهما أو لأحدهما الطلاق علي فرض عدم الاصلاح، فكيف الحاكم؟!

نعم قد أفتي الأصحاب فيمن غاب عنها زوجها و لم تعلم به و انقطع خبره بعد رفع أمرها الي الحاكم و ضرب الأجل بأربع سنوات و التفحّص في الجهات خلال المدة المذكورة، فيطلّقها الحاكم و تعتدّ عدّة

الوفاة مع حفظ حق تقدّم الزوج لوجودها في العدّة، كل ذلك اذا لم يكن للغائب ولي يخلفه في أمور أو كان و امتنع عن طلاقها.

و كذلك أفتوا في المظاهر عليها التي لا يطلّقها زوجها و لا يرجع إليها بالتكفير

______________________________

- ضِرٰاراً لِتَعْتَدُوا» (البقرة 2 الآية 231)، و قوله: «وَ لٰا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» (الطلاق [56] الآية 6).

و قوله تعالي: «وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقٰاقَ بَيْنِهِمٰا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا إِنْ يُرِيدٰا إِصْلٰاحاً يُوَفِّقِ اللّٰهُ بَيْنَهُمٰا». (النساء [4] الآية 35)

(1)- مما أبدعته الحكومة البهلوية الجائرة ضمن بدع اخري بعنوان التحرير و حماية الأسر ممّا أدي الي حدوث ثورة و كفاح انتهي الي مصائب هائلة للاسلام و المسلمين كما تعلم.

ثم ان صاحب كتاب: (فقه السنّة) قد فصّل بعض تلك الموارد و قبلها معلّلا بتيسير الناس و التمشي مع روح الاسلام السمحاء/ ج 2/ ص 287، و نعوذ باللّه من القياس في الأحكام.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 83

فاذا رفعت أمرها الي الحاكم ينظره ثلاثة أشهر، فان لم يختر أحد الأمرين يحبسه و يضيّق عليه في المطعم و المشرب حتي يختار حلا واحدا من دون إجبار و لا يطلّق عنه، و كذلك في الإيلاء مع تفاوت في المدة التي تضرب من أربعة أشهر.

فتري من تلك الموارد شدّة رعاية الاحتياط، فلا بدّ من ذلك في أحكام الفروج و الدماء، و حينئذ كيف يمكن الحكم بجواز ذلك للحاكم في موارد العلم بحياة الزوج، بل مع إمكان مكالمته أو مكاتبته مع تعذّره من الاستمتاع مدّة كالحبس و الأسر بل السفر، فكيف في مثل الإضرار بالضرب و الشتم و ترك النفقة و غيرها، فان طريق منعه عن ذلك و تكليفه بأداء

الحقوق هو غير الطلاق من قبله.

هذا و مع ذلك كلّه لا ننسي الولاية العامة للحاكم الشرعي في بعض الموارد الخاصة التي انتهي الأمر الي الضرر و الحرج المنفيين و خيف من وقوعهما أو وقوعها في الحرام من الفحشاء فلا يقيما حدود اللّه، و علم بذلك كلّه الحاكم فله ذلك لحكومة أدلّتها علي الأدلّة الأولية علي الكلام في شمولها لمثل المقام. فليس الطريق مقطوعا مسدودا مطلقا و لا السبيل مفتوحا سهل العبور مطلقا أيضا. و علي الحاكم بعد رعاية جانب الاحتياط دفع الضرر عنها.

تكملة في ما يشبه بالطلاق:

الإظهار و الإيلاء

اشارة

انك إن كنت متزوجا متأهّلا تعرف- قطعا- ما يطرأ بين الزوجين حسب اختلافهما و لو في الجملة طول حياتهما المشتركة- علي أساس استمتاع كل واحد بالآخر- مما ينتهي الي التقاول فالتشاجر ثم التباغض أحيانا إن لم يغمض أحدهما و يعفو، و الأولي به هو الرجل فانه الذي عليه الكرامة و له القوام.

و عندئذ يتعرّض لهما الشيطان ليوقع بينهما العداوة و البغضاء، فيحاول كل واحد منهما الإضرار بالآخر مهما أمكن، سواء كان مشروعا أو غير مشروع، أعاذنا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 84

اللّه تعالي منه، فكان الرجل يشبّه زوجه بأمّه ظهرا حتي تصير عليه حراما لا يطأها إضرارا بها، و لم تكن مطلّقة مسرّحة، و الظهر كناية عمّا يركب عليه، أو كأن يولّي و يقسم و يحلف باسم اللّه تعالي علي تركها معلّقة فلا يطأها إضرارا بها و لا يطلّقها حتي تملك نفسها، فالأول يسمّي: «إظهارا» و الثاني يسمّي: «إيلاء»، فأنزل اللّه تعالي في المقام آيات تعديلا لهما.

الظّهار

ففي الأول، قوله تعالي:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* قَدْ سَمِعَ اللّٰهُ قَوْلَ الَّتِي تُجٰادِلُكَ فِي زَوْجِهٰا وَ تَشْتَكِي إِلَي اللّٰهِ وَ اللّٰهُ يَسْمَعُ تَحٰاوُرَكُمٰا إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ* الَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسٰائِهِمْ مٰا هُنَّ أُمَّهٰاتِهِمْ إِنْ أُمَّهٰاتُهُمْ إِلَّا اللّٰائِي وَلَدْنَهُمْ «1» وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللّٰهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ* وَ الَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمٰا قٰالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا ذٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ شَهْرَيْنِ مُتَتٰابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعٰامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ وَ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰابٌ أَلِيمٌ.

(المجادلة [58] الآيات 1-

4)

الآيات المباركة تحكي سماع اللّه تعالي تحاور رسوله مع التي كانت تشتكي من زوجها في الإضرار بها بمثل الظهار، و كان النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) حسب الظاهر- يوصيها بالصبر و التحمّل ليعفو عنها فتجادله في زوجها، فأنزل اللّه تعالي: الَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسٰائِهِمْ.. فيقولون لهنّ: ظهرك عليّ كظهر أمّي إضرارا بهنّ، لا يحرمن بهذا القول عليهم كحرمة أمهاتهم عليهم. أمّا يعتقدون أنّ أمهاتهم هنّ اللائي

______________________________

(1)- و فيه أيضا قوله تعالي: «.. وَ مٰا جَعَلَ أَزْوٰاجَكُمُ اللّٰائِي تُظٰاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهٰاتِكُمْ..» (الاحزاب [33] الآية 4)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 85

ولدنهم، فالقول هذا منكر و زور لا يناسب شأنكم، يعفو اللّه تعالي عن قائله اذا تاب و عاد الي حياته الهنيئة، فان اللّه عفوّ عن الخطيئات غفور رحيم.

نعم علي المظاهر كفّارة تحرير رقبة قبال تحبيسه في الجملة، و ليذوق طعم التحرير و يري آثاره في المحرر، فتنبعث روحه علي الخير و ينزجر هو عن الشرّ، و إن لم يقدر علي الكفّارة فصيام شهرين متتابعين لذلك أيضا، و إن لم يستطع فإطعام ستّين مسكينا، كل ذلك قبل التماس و الدخول، فعليه التكفير ثم الرجوع حتي يتّعظ، و اللّه تعالي بما تعملون خبير، و ذلك من حدود اللّه فمن كفر بها و تجاوز عنها فله عذاب أليم.

فيجب علي المظاهر العود و الكفّارة أو الطلاق لقوله تعالي: وَ لٰا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً فان عاد أو صبرت هي حتي يعود بنفسه فبها و نعمت، و إلا رفع أمرها الي الحام فيلزمه علي واجبه بمراتبه حتي يصل الي الحبس و التضييق حتي يختار أحدهما، و ليس له طلاقها بدون إذنه، و لا وجه لضرب الأجل من قبل الحاكم إلّا

اذا لم تنقض مدّة يجب عليه التماسّ و الدخول شرعا و الأجل المضروب علي الفرض يستغرق مدّة ذلك الواجب من زمن ترك الوصي الي أربعة أشهر.

ثم إن الظاهر من كلمة: «أمّ» هو أن التشبيه بغيرها لا يوجب الحرمة «1»، و ان أوجبها تشبيه غير الظهر بالأم بقصد التحريم دون التعظيم، كما ان الظاهر من قوله تعالي: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا بعد إيجاب الكفّارة جواز غير الدخول من الاستمتاعات بلا كفّارة و عدم تكرره به. و رعاية الترتيب في الكفّارة ظاهر. و الظاهر من: «نسائهم» ثبوت الحكم في المطلّقة الرجعية أيضا ما دامت في العدّة، و عليه الكفّارة إن أراد الرجوع بالدخول بعد الظهار، دون المنكوحة بعقد جديد بعد انقضاء العدّة، و بذلك الاحتيال يتخلّص عن الكفّارة فيطلّقها ثم ينكحها بعقد جديد بعد

______________________________

(1)- و ان أفتي بها بعض الأصحاب في خصوص الظهر، و الآخر مطلقا اذا قصد التحريم و هو مشكل بعد توقيفيّة عوامل الفراق، و ان كان الحكم بالتأثير احتياطا خلاف الاحتياط و أشكل أيضا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 86

انقضاء العدّة مع تقبل خطر احتمال عدم قبول الزوجة.

الإيلاء

و في الثاني، قوله تعالي:

نِسٰاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰي شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلٰاقُوهُ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ* وَ لٰا تَجْعَلُوا اللّٰهَ عُرْضَةً لِأَيْمٰانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النّٰاسِ وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* لٰا يُؤٰاخِذُكُمُ اللّٰهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمٰانِكُمْ وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ* لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فٰاؤُ فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (البقرة [2] الآيات 223- 226)

الآيات المباركة بعد ما تشير الي العلّة الأصلية و الغاية الأساسية لبناء

صرح الزواج، و أنّه بقاء النسل و تكثير النوع الانساني الي ما شاء اللّه الذي يصوّره تعالي في الأرحام كيف يشاء، فان النساء حرث لكم فأتوهنّ من حيث أمركم اللّه به بعد الاعتزال عنهنّ أيام المحيض طهارة للحرث و النسل، و بعد تأكيد الآيات الكريمة الأمر و مراعاتهنّ لتقوي اللّه تعالي و الاعتقاد بيوم القيامة و لقاء اللّه، تنهي عن اليمين و القسم باسم اللّه تعالي مطلقا، ف لٰا تَجْعَلُوا اللّٰهَ عُرْضَةً لِأَيْمٰانِكُمْ بين الناس و بين أنفسكم لا سيّما في الأمور العائلية و بين الزوجين، فان البرّ و التقوي و الإصلاح بلا قسم و يمين خير.

ثم تشير الآيات الكريمة الي الفرق بين الجدّ و الهزل، و ان الموضوع للحكم و المنهيّ عنه المؤاخذ عليه هو الجدّ المكسوب بالقلب دون الهزل و المزاح.

و حينئذ فان حلف أحدكم عن جدّ علي ترك وطي زوجته إضرارا بها فلا يكون

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 87

الأمر باختياره مثل سائر الموارد، و الكفّارة عند حنثه بمشيّته، بل عليه أحد الأمرين:

فإما الحنث و الكفّارة و إما الطلاق، و يضرب لاختياره أربعة أشهر و هي المدّة التي يجب عليه بعدها المباشرة، و ذلك بعد رفع أمرها الي الحاكم، و أما الكفّارة فكما يأتي بحثها في بابها إن شاء اللّه في كتاب العهود و الايمان عند قوله تعالي:

لٰا يُؤٰاخِذُكُمُ اللّٰهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمٰانِكُمْ وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمٰانَ فَكَفّٰارَتُهُ إِطْعٰامُ عَشَرَةِ مَسٰاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مٰا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ ثَلٰاثَةِ أَيّٰامٍ.. (المائدة [5] الآية 89)، و الأمر في اختيار الحاكم- كما في الظهار- عليه إجباره بمراتبه دون الطلاق من قبله.

نتيجة البحث

فرع التكملة:

الأول: الظهار هو أن

يقول الزوج لزوجته: «أنت عليّ كظهر أمّي» مثلا إضرارا بها بقصد تحريم الوطء، و هو نوع طلاق يشترط فيه شروطه الخاصة به، لكنها لا تحرم بذلك عليه حرمة مؤبدة كأمّه، فله أن يعود إليها كالرجوع إليها من جديد، بل عليه ذلك بعد الكفّارة، فتحرم عليه قبلها، و كفّارته تحرير رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستّين مسكينا- علي الترتيب، و لا تتكرر الكفّارة بالدخول قبله، و لا بأس بالاستمتاع بغير الدخول قبل التكفير.

الثاني: لا يتحقق الظهار بالتشبيه بغير الأم من المحارم النسبية، و إن كان الاحتياط في ذكر خصوص الظهار بقصد التحريم مراعي كما في ذكر غير الظهر في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 88

التشبيه بالأم بقصد التحريم لا التعظيم، و الأقرب التحقيق.

الثالث: لا يتغيّر الحكم بتطليقها رجعيا ما دامت في العدّة. نعم بعد انقضائها و لو بالبائن ينقطع أثر الظهار، و له التزوّج بعقد جديد.

الرابع: يجب علي المظاهر أحد الأمرين؛ فإما العود و الكفّارة و إما الطلاق، فان تركهما يجبره الحاكم علي واجبه بمراتب الإجبار الي الحبس و التضييق حتي يختار واحدا منها، دون التعيين له أو التطليق بغير إذنه و رضاه، و ذلك بعد ان ترفع أمرها الي الحاكم.

الخامس: ان القسم و جعل اسم اللّه تعالي عرضة للأيمان جدّا لا هزلا، و لا سيما في الاختلافات العائلية بين الزوجين، مبغوض منهيّ عنه، مؤاخذ عليه.

السادس: القسم علي ترك وطء الزوجة إضرارا بها محرّم تكليفيا مؤاخذ عليه، يجب حنثه كذلك ثم الكفّارة أيضا.

السابع: للذين يؤلون من نسائهم و يحلفون علي ترك وطئهنّ، تربّص أربعة أشهر ثم أحد الأمرين: حنث اليمين و كفّارته، أو الطلاق، و اختيار الحاكم بعد رفع أمرها إليه كما في الظهار.

الثامن: كفّارة

حنث اليمين كما في بابه: إطعام عشرة مساكين أو تحرير رقبة أو صيام ثلاثة أيام علي المراتب.

التاسع: لا بأس بالقسم علي ترك وطي الزوجة مدّة لمصلحتها من تقوية مزاجها أو إصلاح لبنها أو غير ذلك فانه ليس بإضرار.

الي هنا أختتم بما يرتبط بالعهد الوثيق «الزواج» في ما يتعلّق في تحقيقه و حلّه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 89

و قطعه و ما يترتّب عليه من ثمار و آثار.. و الحمد لله أولا و آخرا و نسأله تعالي التوفيق «1».

______________________________

(1)- و في الأصل: الي هنا تمّ كتاب التسريح و الظهار و الإيلاء و الحمد للّه و له الشكر أولا و آخرا، و الساعة الآن هي عشرة دقائق بقين الي الظهر من اليوم الرابع و العشرين من شهر جمادي الأولي لسنة 1394 ه. ق.

و قد انتهينا الي أواخر كتاب التسريح، فأحضرنا من ميناء (بوشهر) الي عاصمة البلد (طهران) من قبل وزارة العدل- و أين العدل من هذه المحاكم؟- باسم المحاكمة- و أيّ محاكمة؟- و قد أعلمنا بكتابة شي ء بعنوان الدفاع عن أنفسنا من غير مشافهة مع الحاكم و المحكمة و لا مجاوبة في العلّة، و أكثر منه: تمكينهم إيّانا لرؤية السّجلات التي حكم عليها بإقصاء كل من ورد اسمه فيها من أولئك الأفاضل، و هو سجّل مهين سخيف لا يخفي علي أهله، و ليس هنا محل ذكره، و خلال نظرتنا للسجل حكي أحد القضاة قصّة أبي حنيفة مع الحاكم إشارة الي موضعه و موضعنا من أنّه و رئيسه في المحكمة و مشاوريه مع كل المنظّمة القضائية المستقلّة ظاهرا لا يكون إلّا لعبة في أيدي المنظّمة الخاصة باسم الأمن العام المستخدمة لجميع المنظّمات الظالمة علي عموم الطبقات الحافظة للاستبداد العريق

من قبل العميل الخائن محمد رضا بهلوي في سبيل حكومته و مصالح أسياده المعاونين له، ثم أعلمنا بلا مجاوبة شفاهية و لا كتبية لما كتبنا بتغيير محل الإقصاء، و ان علينا البقاء في بلدة (رودبار)، و لا أعلم أنه متي و أين حدث ذلك، فقلت لحاكم قم تلفونيا: و حيث ان المدّعي و الشاهد و القاضي واحد فبيّن لنا أين ذلك المحل و أنت تعلم انه قريب من بلدة رشت التي هي علي ساحل النهر الأبيض الجاري من سدّ منجيل، و ممّا أعجبني و يعجب كل ناظر لهذه البلدة أنها تقع علي ساحل نهر و هي مضيقة من ماء الشرب المصفّي بالإضافة الي عدم وجود مستشفي فيها، و هذه النواقص و الاحتياجات لهذه البلدة تضاف الي ما كان يعانيه المجتمع الايراني المسلم آنذاك، و في كثير من انحاء البلاد أيضا. و أعتذر لخروج القلم عن مسيره الأصلي في الرسالة، و إنما أتيت بهذه السطور في المقام تحفّظا عليها و علي نظم الكتاب، و إنما أشكو بثّي و حزني الي اللّه و أدعوه أن يقطع أيدي الظلمة عن الحوزات العلمية و يردّ كيدهم في نحورهم و ينصر الاسلام و المسلمين و يوفّقنا لمراضيه في مختلف الظروف حتي لا ننساه و أوامره أيضا، نعوذ به من ذلك في المكاره فان الإنسان خلق ضعيفا، و به نستعين.

الي هنا تمّ ما في الأصل. و بمراجعة التاريخ يتّضح ما أصيب به الاسلام في بلادنا و لا سيّما في الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة بواسطة أيادي تلك الحكومة الجائرة من شنّ غارات وحشية مكررة علي المدارس العلمية و بيوت العلماء و استخدام الضرب و الجرح و القتل مرارا في الطلّاب

و الكسبة و الزوّار ثم إقصاء الأساتذة و العلماء و المراجع العظام و جمع من التجّار ثم إيجاد الإرهاب و التخويف بأشكاله السبعية توهّما منهم أن هذا هو طريق استسلام الثوّار المسلمين، المجاهدين في طريق الحق و إحياء الدين و دفع البدع حتي النصر الكامل الشامل المورث و المحقق للحكومة الاسلامية الحقّة لئلا تكون فتنة و ليكون الدين كلّه للّه. و بقيت الثورة الاسلامية دائبة في تكامل مسيرتها بقيادة العلماء و رئاسة الأعلم الأعرف الأتقي كهف الاسلام و ملاذ المسلمين أستاذنا الأعظم آية اللّه العظمي الامام الحاج السيد روح اللّه الموسوي الخميني (أدام اللّه ظلّه علي رءوس المسلمين)، و قد بلغت مراحلها العالية، نرجو من اللّه التوفيق الكامل بأيدي المؤمنين إن شاء اللّه تعالي، و أنا الآن في (قرية) قرب مدينة كرمانشاه تحت إشراف المنظّمات الدولية منتقلا من ميناء الفجة و ذلك في جمادي الثانية 1398 ه. ق.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 91

كتاب التجارة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 93

التجارة

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ وَ لٰا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً. (النساء [4] الآية 29)

كرامة الانسان عند اللّه

اشارة

الانسان بطبعه المحبّ لذاته و لجميع شئون حياته، لا بدّ له من أكل يصلح به بدنه و يسدّ به جوعه، و شرب ينفعه و يروي عطشه، و بالجملة يسكن به غرائزه و يلبّي مطالبها، و اللّه تعالي خلق له ما في الأرض جميعا «1»، و خلقه و ما خلق له فهو لنفسه تعالي «2».

فالإنسان بفطرته يتصرّف في البحار و الأنهار، فيشرب منها اذا كان عذبا فراتا «3»، و يتطهّر بها تنظيفا من الأقذار و من رجز الشيطان «4»، و يصطاد فيها فيأكل منها لحما طريّا و يلبس منها زينة و حلية «5»، و يجري فيها الفلك ابتغاء فضل اللّه تعالي من

______________________________

(1)- كقوله تعالي: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً..». (البقرة [2] الآية 29)

(2)- و في الحديث القدسي: «خلقت الأشياء لأجلك و خلقتك لأجلي».

(3)- كقوله تعالي: «هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هٰذٰا عَذْبٌ فُرٰاتٌ وَ هٰذٰا مِلْحٌ أُجٰاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُمٰا بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً» (الفرقان [25] الآية 53)، و قوله: «وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ شٰامِخٰاتٍ وَ أَسْقَيْنٰاكُمْ مٰاءً فُرٰاتاً» (المرسلات [77] الآية 27).

(4)- كقوله تعالي: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعٰاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ وَ لِيَرْبِطَ عَليٰ قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدٰامَ». (الأنفال [8] الآية 11)

(5)- كقوله تعالي: «وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهٰا وَ تَرَي الْفُلْكَ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 94

نعمه المتنوّعة

في الأقطار المختلفة، و حمل الأمتعة و يسقي منها الحرث و الزرع و الشجر، و هذا كلّه حق طبيعي له بنوعه من غير تقدّم لأحد علي آخر.

و كذلك يتصرّف في الجبال و الآجام و الأودية و ما يدبّ عليها و ما ينبت فيها باتخاذ البيوت و استخراج المعادن و الزرع و الغرس و صيد الدوابّ و تسخيرها، فقد جعل اللّه تعالي له و لكل دابّة في الأرض معايش «1»، فذلك أيضا حق طبيعي له من غير تقدّم لأحد علي أحد، فان البحار و الأنهار و الجبال و الآجام و الأودية و غيرها..

من الأموال العامة التي فيها حق العموم، ينتفع بها علي نظام خاص فصّل في بحث موضوع الأنفال و موضوع الحكومة.

ثم انّه تصرّف بالفطرة و الطبيعة أيضا فيما تملّكه و اختصّه بنفسه فغيّر فيه و صنع منه من مزج و تركيب، و من طبخ في المأكل و المشرب و نسج في الملبس، و من مسكن و مركب و سائر وسائل الحياة؛ و بتصرّفه هذا و عمله و صنعه ترتفع ماليّته لارتفاع الرغبة فيه.

و بهذا التملّك و التصرّف و العمل تتحقّق رغبة و علاقة اعتبارية بينه و بين الشي ء تسمّي بالملكية، فما يستنقذه الإنسان من الطبيعة المحيطة به فهو له سواء كان بالاصطياد أو الاحتطاب أو الإحياء و حتي التحجير، و ليس لغيره أخذه منه بدون رضاه، و له منع غيره من التصرّف فيه.

و لعلّ الاختصاص الحاصل بهذا التصرّف الأولي بل الثانوي المعبّر عنه بالملكية أمر طبيعيّ لا يختصّ بالإنسان فقط بل نراه في الحيوانات بطبقاتها.

فالملكية هذه هي الرابطة الاعتبارية المتحققة بين الإنسان و ما فيه المنفعة المرغوب فيها حسب الخواص الطبيعية في الشي ء أو في

ما يحصل من العمل،

______________________________

- مَوٰاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (النحل [16] الآية 14)

(1)- كقوله تعالي: «وَ لَقَدْ مَكَّنّٰاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنٰا لَكُمْ فِيهٰا مَعٰايِشَ قَلِيلًا مٰا تَشْكُرُونَ». (الاعراف [7] الآية 20) و قوله تعالي: «وَ جَعَلْنٰا لَكُمْ فِيهٰا مَعٰايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرٰازِقِينَ». (الحجر [15] الآية 20)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 95

و تتحقق هذه الرابطة في اعتبار العقلاء بأحد الأسباب المملكة سواء كانت الأولوية أو الثانوية عندهم من الحيازة و الإحياء و الاصطياد و أمثالها، أي ما لم يسبق علي المملوك ملك و يد و شراء و استيجار و إرث و أمثالها، و قد أمضي الشارع المقدّس أو أنه لم يردع عنه إلّا في بعض الموارد كالخمر و الخنزير و أشباهها.

و أما ما يتوهّم من بعض المباني الاقتصادية الشيوعية المأخوذة من ماركس و انجلز- و قد سبقهما بعض المتقدّمين اليونانيين- من أن كل ما يتموّل هو مال للشعب، بل انهم يقولون: الإنسان بطبيعته السارية، له الانتفاع من المجموع من دون اختصاص شي ء بفرد دون فرد آخر حتي الدول و الحكّام و إنما عليهم الإشراف علي الانتفاع دفعا للفساد و التجاوز، فلا ملكيّة في البين أصلا، و الذي هو الواقع جواز الانتفاع و إباحته علي التناسب العقلائي، كالضيوف في مأدبة المضيّف الجائز لهم الأكل و الشرب و لا ملكية … الخ، فتوهّم فاسد أجبنا عنه في محلّه، مع أن حفظ التناسب و حق التقدّم بمستوي العمل الابتدائي أو علي شي ء و مقداره علي اختلاف الاستعدادات و درجة الفعالية الموجبة لتفاوت الرغبة في المال و العمل و تفاوت قيمته حسب أثره في الحياة مما لا كلام فيه لديهم أيضا، و كأنّ

البحث في شي ء منه يرجع الي اللفظ و اختلاف التعبير، فان الاختصاص بهذا الوجه لا يبعد عن اعتبار الملكية، و التفصيل خارج عن وضع الرسالة، و سيأتي شي ء من الكلام فيه في مسألة الرزق في القرآن الكريم في آخر كتاب الأطعمة و الأشربة إن شاء اللّه تعالي.

و كيف كان، فحيث ان كل فرد من نوع الإنسان لا يتمكّن من تأمين جميع ما يفتقر إليه في حياته، فانه يتعاون مع غيره بطبعه المدني و يتبادل بما زاد عن مختصاته ببعض مختصات غيره الزائدة لديه تأمينا للكل كل ما يؤمّنهم، و كان هذا التبادل أوّلا بنفس الأعيان أو الأعمال ثم علي مقياس معيّن بعد اختلاف الرغبات في الأشياء الناشئة عن خواصّها أو خواصّ الأعمال المقوّمة و بالتدريج جعل المقياس أعلي الأشياء و أعزّها و هو الذهب و الفضّة، فتحقق معني الثمن و مقابلة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 96

الشي ء المثمّن ثم الأوراق المجعولة من الحكومات و العملة الدولية.. تسهيلا.

و من ذلك يتمّ تقسيم المالية و القيمة كما ذكره أهل الفن بالذات و المبادلة، فان مالية الدرهم و الدينار مبادلة تختلف بالاعتبار دون نفس الأشياء القائمة قيمتها بخواصها الذاتية التي لا تنالها يد الاعتبار و الجعل.

ثم انه لا إشكال في تحقق الملكية بما عرفت من الأسباب للمؤمن باللّه تعالي، فله التصرّف في ملكه كيف يشاء و منع غيره، و لا يجوز للغير التصرّف فيه بغير إذنه و رضاه، إلّا أن الكلام في شمول ذلك لغير المؤمن أيضا، فقد يقال بالاختصاص و ان المؤمن باللّه تعالي هو الذي يملك دون غيره، و حاصل ما يمكن أن يستدلّ به قوله تعالي:

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ

الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا خٰالِصَةً يَوْمَ الْقِيٰامَةِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (الأعراف [7] الآية 32)، بتقريب صراحتها في اختصاص ما أخرج اللّه تعالي زينة و ما خلق من طيّبات الرزق لعباده المؤمنين، و من أنكره و لم يؤمن به فهو دابّة علي اللّه رزقها يعلم مستقرّها و مستودعها، لا بل هو شرّ الدوابّ، قال تعالي:

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لٰا يَعْقِلُونَ (الأنفال [8] الآية 22)، و قال أيضا: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لٰا يُؤْمِنُونَ (الأنفال [8] الآية 55)، و قال أيضا: رُبَمٰا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كٰانُوا مُسْلِمِينَ* ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (الحجر [15] الآية 2- 3)، و قال أيضا:.. يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَمٰا تَأْكُلُ الْأَنْعٰامُ (محمّد [47] الآية 12).

فكما أن تصرّف الأنعام و تمتّعهم مما خلق اللّه تعالي تصرّف إباحة لا ملك، فكذلك الذين كفروا، و ما خلق اللّه تعالي من طيّبات الرزق و ما أخرج من زينة فهو للمؤمنين خالصا في الحياة الدنيا.

و عليه فلا بأس بتصرّف المؤمن فيما احتازه الكافر بغير إذنه و رضاه لو لم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 97

يترتّب عليه مفسدة، و لم ينطبق عليه عنوان محرّم آخر.

و يمكن تأييد ذلك بفلسفة الخلقة و علّة الحياة من ظهور الحق و سلطة التوحيد و صيرورة الدين كلّه تعالي، فكل شي ء و كذا الإنسان اذا كان سيره و سلوكه في سبيل الحق فهو علي حق و هدي، و اذا خرج عنه و اتّجه الي غير اللّه تعالي فهو- بالطبع و حسب اللوازم الطبيعية لنظام الفطرة- باطل و ضلال؛ و الإنسان الموحّد المؤمن باللّه تعالي سالك

علي طريق يملك هذه القاعدة، و غيره خارج عنه لا يملكها، و هذا غاية التقريب.

و الحق في الجواب إن الملكية اعتبار عقلائيّ لا يختصّ بشرع و ملّة، و قد أمضاه الشارع أو لم يردع عنه، و الآية الكريمة بعد انها في مقام بيان ردّ التحريم و أنه:

لٰا تُحَرِّمُوا طَيِّبٰاتِ مٰا أَحَلَّ اللّٰهُ لَكُمْ و لا تنتفعون من طيّبات ما خلق اللّه لكم و أنتم أحق بالانتفاع بها من غيركم فانكم بنوعكم و أعلي صفتكم و أكمل فردكم الغرض في مجموع الخلقة و لكم خلق ما خلق، و أخرج ما أخرج، لا ترتبط بمقام بيان الملكية و حدود المالك حتي تفيد الاختصاص بالمؤمن- هذا أوّلا-.

ثم لو سلّم أنها تكون في ذلك المقام، فالآية الكريمة قد أثبتت و أكّدت اعتبار العقلاء من المؤمنين، و لم تردع في غيرهم، و تخطئة العقلاء في اعتباراتهم العامة يحتاج الي صراحة و نصّ من الشارع المقدّس و لا يكتفي بمثل ذلك حيث لا منطوق و لا مفهوم للوصف من ان إطلاق العباد يشمل غير المؤمنين من الناس كما في موارد كثيرة «1».

مع انه ينطبق عليه غالبا العناوين المحرّمة الثانوية بحيث يشكل تصوّره بدونها إلّا قليلا كالتصرّف في أمواله من جهة المعاملة ظاهرا و كان واقعا تصرّفا غير معاملي

______________________________

(1)- مثل قوله تعالي في الشيطان: «لَعَنَهُ اللّٰهُ وَ قٰالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبٰادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً». (النساء [4] الآية 118) و قوله تعالي: «قُلِ اللّٰهُمَّ فٰاطِرَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ عٰالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبٰادِكَ فِي مٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ». (الزمر [39] الآية 46) و غيرهما.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 98

اذا جعله مختارا مثلا.

و أما سلب احترام مال المرتد بارتداده فهو بدليل آخر

لا يرتبط بالمقام و لا يشمل أمواله المكتسبة بعد ارتداده.

ثم بعد ما عرفت من صحة تملّك المؤمن و الكافر في اعتبار العقلاء و عدم ردع الشارع المقدّس عنه إلّا في بعض الموارد الخاصة فهل يختص التملّك بالحرّ أو يشمل العبد و المملوك أيضا؟ و هل يفترق اعتبار العقلاء في ذلك مع اعتبار الشرع علي أساس افتراق اعتبار ملكية الإنسان للإنسان؟

الاسترقاق!

الظاهر من اعتبار العقلاء في ماهيّة الملكية بالنسبة الي العبيد و الإماء هو عدم الفرق معها في غيرهم، فان معني الملكية عندهم بالنسبة إليهم كمعناها بالنسبة الي العقار و السلعة و المتاع من جواز التصرّف كيف يشاء حتي الضرب و القتل كما كان قبل الاسلام فكانوا يستعبدون الضعفاء و يسترقّونهم بالقهر ظلما من غير وجه ثم يبيعونهم في الأسواق، كما كانوا يحتطبون أو يصيدون ثم يبيعونه في الأسواق أيضا، و كما نري ذلك في عصرنا هذا بشكل آخر من استرقاق البلاد و الدول المستضعفة فيبيعونهم بثمن بخس مع ما في بلادهم و أراضيهم من النعم الإلهية التي خلقها اللّه تعالي لهم، و هذا من حبّ الرئاسة و الحكومة بالرغم من ادّعائهم إلغاء تملّك إنسان لإنسان آخر، و كان ذلك ملغي في الاسلام من أول الأمر بأيّ شكل و وجه كان، فلا يجوز استرقاق إنسان بالقهر و الظلم و جعله متاعا و سلعة يستمتع به، فان اللّه تعالي خلق الإنسان حرّا و نهاه من أن يجعل نفسه عبدا لغيره.

و كيف كان، فعلي اعتبارهم ذلك لا معني لملكية العبد شيئا، فان السلعة و المتاع لا معني لاعتبار ملكيّتهما، فيختصّ التملّك بالحرّ عندهم، و أما عند الشرع المقدّس فقد أبطل مبني العقلاء في تملّكهم للانسان، و حرّم الاسترقاق

و الاستعباد

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 99

الذي كان عندهم، فلم ينقرض استرقاق القويّ الضعيف بظلم و عنف فردا و جمعا بأيّ شكل كان من صوره القديمة أو الحديثة المستورة بعنوان الاستعمار.

و الذي أمضاه الشرع المقدّس و اعتبره هو أمر آخر لا يكون بحقيقته الملكية و لا يشابه ماهيّة اعتباره الملكية العقلائية بل يرجع الي نوع إشراف و نحو ولاية مع حفظ حقوق الانسان الأولية لمن وقع تحت ذلك الإشراف كما في سائر موارد الولايات، و هو علي الإجمال أن أسري الكفّار المحاربين للمسلمين لا معني لتحريرهم من غير وجه بعد فتح الاسلام و أسرهم، فإمّا منّا و إما فداء من اشتراء أنفسهم، و إما حفظهم في المجتمع الاسلامي بتقسيمهم بين المسلمين لئلا يضرّوا الاسلام و المسلمين و ليكونوا في مأمن من فتنهم أو يذوبوا متدرّجين فيهم، فيتصدّي المسلم تكفّله من الرزق و التربية و تبليغه الاسلام، و يعمل ذلك الأسير له أيضا قبال معاشه تحت إشراف المسلم و ولايته، و ليس للمسلم ضربه أو قتله أو مثلته أو إيذاؤه بلا وجه شرعي، فهو إنسان يعيش مع إنسان آخر تحت ولايته، ثم انه يتمسّك بأشياء لتحريره بعد الأمن من خطره بأن يصير مسلما واقعا، أو تغيّرت الشروط فيه فيصير كالآخرين، و ليست هي تلك الملكية الواقعية، بل هي شبه ملك عبّر عنه بها، و تفصيل الكلام في محلّه.

و علي ما عرفت من الاعتبار لا يختصّ التملّك بالحرّ و يصحّ اعتبار تملّك العبد أيضا و لو في طول ملك مالكه أو باذنه كما في كل مالك بالنسبة الي وليّه و الي مالك الملوك كما هو ظاهر.

هذا و لكن قد يستدلّ لعدم تملّك العبد بقوله تعالي:

ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا

عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَليٰ شَيْ ءٍ.. (النحل [16] الآية 75) بتقريب توصيف اللّه تعالي العبد بأنه لا يقدر علي شي ء فلا يصحّ بيعه و شراؤه و إجارته من قبل نفسه فكيف احتطابه و اصطياده و إحياؤه الأرض فلا يملك شيئا و لو كان مؤمنا، و المانع كونه مملوكا فلا فرق بين العبد و الأمة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 100

لكنك تعلم ان الآية الكريمة في ظرفها الخاص من البحث العريق تدور حول إثبات القيّوم في الطبيعة، و انه تعالي هو الذي أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها.. و ان في ذلك لآية لقوم يتفكّرون، و كذلك تشير الآيات الكريمة الي مظاهر أخري و علائم و آيات بيّنات من تنظيم نظام الطبيعة و مواد ارتزاق الانسان من ألبان الأنعام و سكّر ثمرت النخيل و الأعناب و شراب النحل المختلف الألوان، و كيفية الحياة كتوفّي البعض، و ردّ الآخر الي أرذل العمر و التفاضل في الرزق و التوالد و انتاج بنين و حفدة …

و بعد ذلك كلّه من وضوح الآيات المباركة، أ فبالباطل يؤمنون و بنعمة اللّه يكفرون؟ و يعبدون من دون اللّه ما لا يملك لهم رزقا من السماوات الأرض و لا يستطيعون شيئا؟!

ففي مثل هذا المقام لتبيين البحث و إعلان الفرق بوضوح تجاه كل أحد، بيّن اللّه تعالي قدرته و خالقيّته و انه القادر المتعال السارية إفاضاته في كل الوجود و في الطبائع أيضا، و بيّن تعالي الأصنام التي كانوا يعبدونها من دونه شركا به، فهي التي لا تقدر علي شي ء في الأرض فكيف بها في السماوات.

ففي مثل هذا المقام لتبيين الفرق يضرب اللّه تعالي مثلين:

الأول: رجلان أحدهما: أبكم؛ أخرس أمّيّ لا يقدر

علي النطق وَ هُوَ كَلٌّ عَليٰ مَوْلٰاهُ أينما يوجّهه لا يأت بخير، و ثانيهما: ناطق قادر يأمر بالعدل و هو علي صراط مستقيم، فهل يستويان؟!

فكما أن وجدان كل أحد و عقله لا يقضيان في تساوي هذين المثلين، و يحكمان بتقدّم القادر المتصرّف الناطق، كذلك لا يستوي اللّه تعالي القادر علي كلّ شي ء مع غيره و لا يقاس مع الأصنام العجزة الجامدة أيضا، و المعبود حقّا و عدلا هو اللّه القادر المتعال.

و عليه فلا تكون الآية الكريمة في مقام بيان شي ء من صحة تملّك العبد

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 101

و عدمه حتي يستند إليها لعدم تملّكه و عدم صحّة نكاحه و طلاقه و غير ذلك مما ذكره الأصحاب في محلّه، مع انه لا فرق بين قوله تعالي: لٰا يَقْدِرُ عَليٰ شَيْ ءٍ في الجملتين، و الأبكم يقدر علي التكسّب و التملّك و التصرّف، فلو لا السنّة المباركة لم يتمّ استنادهم الي الآية الكريمة لعدم صحة ما ذكر و لا تعارض بين كونه مملوكا و مالكا طولا- كما عرفت-.

و الحاصل: إن اعتبار العقلاء الملكية لا يختصّ بفرد دون فرد، و نوع دون نوع مؤمنا كان أو كافرا حرّا كان أو عبدا فله التصرّف في ملكه كيف يشاء ثم تبادله مع الآخرين علي ضوابط خاصة.

ثم ان التجارة ليست إلّا تبادل عقلائي عرفي بين ما زاد عن احتياجات شخص مع آخر، فهي تبديل مال بمال، و ذلك بطبعه قسمان قد يقع عن تراض و توافق بينهما و قد يقع بغيرهما، و الأول هو الحق المرضيّ لدي العقلاء، و الثاني هو الباطل المردود لديهم، و قد أمضي الشرع المقدّس ذلك في طرفيه و قال: لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ

تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ.

و تقابل التجارة مع الباطل يفيد أن الصحيح منها المتّفق عليه المستثني من الباطل هو حقّ عقلائي لم يردع عنه الشارع المقدّس مطلقا، لا خصوص عنوان التجارة المنطبق علي البيع غالبا، فيشمل كل مبادلة عقلائية تعدّ حقّا لديهم، و لو لم ينطبق عليه عنوان خاص من البيع و الصلح و الإجارة و غيرها، و لو كان مستحدثا و غير مسبق في مثل ما هو المعروف في زماننا ب: «التأمين» و أقسامها، فلا احتياج الي الاحتيال فيها و التكلّف لتطبيق أحد العناوين عليه. و عليه كلّما لم يكن عند العرف تجارة و حقّا مثل السرقة و القمار، و ما هو المسمّي في بلادنا ب: «إعانة ملّي» «1» أي

______________________________

(1)- و قد استبدلوا اسمه السابق: «بخت آزمائي» إليه إغراء للناس، و المسمّي واحد و هو اصطياد الناس و أخذ أموالهم قبال ورقة باسم الجائزة علي القرعة ثم صرف سهم منها في الجوائز تشديدا للإغراء، و جزء منها في-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 102

المعونة الشعبية، و في بعض البلاد ب: «اليانصيب» أو لم يكن تجارة عند الشرع كالربا و بيع الخمر و أكل لحم الخنزير، أو انه تجارة شرعا و عرفا و لكن لم يكن عن تراض بل عن إكراه أو قهر عليه، فهو باطل غير واقع و لا يترتّب عليه آثار النقل و الانتقال في الملك كما هو ظاهر، فالآية المباركة بكلّيتها ترشد الي ما هو مؤيّد لدي العقلاء.

و الحاصل: ان في المقام أصلا أوليّا هو المرجع في الكتاب الحكيم، و هو أن كل مبادلة و معاملة تعدّ حقّا لدي العرف و العقلاء ما لم يردع عنه الشارع المقدّس يحلّ أكل المال بها، و غيره

باطل غير واقع يحرم أكل المال به و بعنوان بيان المصداق، قال تعالي: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا (البقرة [2] الآية 275)، كما سيأتي بحثه إن شاء اللّه تعالي في محلّه.

و يؤيّد الأصل قوله تعالي ذمّا للأحبار و الرهبان الذين هم علماء اليهود و النصاري الذين كانوا يأكلون أموال الناس بالباطل، فيقول:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبٰارِ وَ الرُّهْبٰانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لٰا يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ (التوبة [9] الآية 34)، و كذلك قوله تعالي:

وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَي الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.. (البقرة [2] الآية 188)، فان عنوان الباطل المذكور كلّي ينطبق علي الموارد و يقابله الحقّ، و الانطباق عرفيّ إلّا مع ردع الشرع المقدّس.

أركان المعاملة:

ثم إنّك بالتأمّل و الدقّة في ما أرشدت إليه الآيات الكريمة السالفة الذكر تعرف

______________________________

- بعض وجوه الخير بنظرهم إغراء أيضا و تملّك الباقي و صرفه في مشتهياتهم و حيث لا يعطي المال من يأخذ الورقة تعاونا علي الخير و لا يصرف فيه نصفه بل عشره أيضا فهو أكل بالباطل عرفا و شرعا لا يعدّ تجارة و كسبا لا لمن نصيبه القرعة و لا للآخذين باسمها فهو حرام لهما معا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 103

ان التجارة- بمعني التبادل في الأموال- تتوقّف علي أربعة أركان، هي مالكان و مالان، فمالكان يتصرّفان في أموالهما بالتبديل سواء كان بأنفسهما مباشرة أو بواسطة وليّهما أو وكيلهما أو الأجنبيّ الفضولي، ثم إجازتهما ذلك التصرّف في الطرفين أو في أحدهما، و مالان يقع التبادل بهما،

و لا تبادل في المالكين حتي في الاعتبار.

ثم إنّ المالين إن كانا عينين أو منفعتين أو مختلفين فبيع و شراء، و إن كان انتفاعا في طرف من ثمر أو دار سكني أو عمل فاجارة، و المقياس هنا بين المالين هو الثمن، فان وقع التبديل به فينحصر البائع أو المؤجر بصاحب السلعة أو المنفعة، و صاحب الثمن هو المشتري أو المستأجر، و إلا فكل من صاحبي السلعة أو المنفعة موجب و قابل، بائع و مشتري، نعم في تبادل السلعة و الانتفاع، المؤجر و الأجير هو صاحب المنفعة، و صاحب السلعة هو القابل المستأجر.

ثم ان طرفي المبادلة أي السلعتين أو الثمن و المثمن إن كانا حاضرين يسمّي نقدا و إلّا فان كان بعد مضيّ زمان فان كان في طرف الثمن يسمّي نسيئة، و إن كان في طرف المثمن يسمّي سلفا «1»، و فيهما بيع الكلّي بالكلّي الذي تتحقق الذمّة فيه بنفس ذلك البيع فهو غير مكيل بمكيال أي بيع الدين و الذمّة المتحقق قبلا بسببه بدين آخر كذلك حتي تكون مالا موجودا في الجملة، و يصدق تبديل مال بمال و لا مال في الكلّي قبل البيع و حاله أيضا، و يوجد به ممن كان لذمّته اعتبار عرفا.

و لعلّ فيما ذكرنا اجتمع جميع أقسام المعاملات البيعية بعد إضافة وجود الربح أو النقص أو عدمهما «2» فيصحّ كل ما كان عند العرف حقّا، و يبطل غيره الباطل

______________________________

(1)- و من الشروط كما تعطيه العبارة قبض الثمن في المجلس، و لو وقع البعض فعن الشهيد (ره) البطلان في الكل، و عن الآخرين في المؤجّل فقط، فيصحّ في الحال، و لا نفهم لتطبيق ما ذكروه، وجها للبطلان من بيع الدين بالدين علي

المقام فانه لا يشمل الدين الحاصل من نفس البيع.

(2)- المسمّي بالمرابحة و المواضعة و التولية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 104

عنده أو عند الشرع المقدّس لنفي المالية لديه، كما في بيع الخمر و الخنزير، أو نوع المعاملة كما في الربا و بيع مكيل بمكيل، و الأقوي تقييد البطلان بما اذا كان الدّين في الطرفين مؤجّلا لعدم مال بالفعل، و رعاية الاحتياط في الحال، كما عن الأستاذ الأعظم مدّ ظلّه في حاشيته علي الوسيلة.

و من المعلوم أن عمل التبديل في المالية بالبيع أو الإجارة بل في كل معاملة لا يتحقق بنفسه جزافا أيضا، بل يحتاج الي مظهر من لفظ أو عمل بأخذ و عطاء، فان تحقق بالأول فهو عقد، و بالثاني المعاطاة، و كلاهما متعارفان، و قد أمضاهما الشارع المقدّس، و كأن العرف لا يكتفي في مهام الأمور إلا بلفظ صريح أو سند قاطع تضمنه المحاكم، و الأمر في الشرع كذلك، قال تعالي: وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ- الي قوله- إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً حٰاضِرَةً تُدِيرُونَهٰا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَلّٰا تَكْتُبُوهٰا (البقرة [2] الآية 282)، كما سيأتي الكلام عنه إن شاء اللّه.

فالمعاطاة أي التجارة الحاضرة الدائرة بينهما (البائع و المشتري) بالتقابض لا بأس بها من دون سند و كتابة أو لفظ و عقد، فان اليد من أدلّة المالكية ظاهرا لدي العرف و العقلاء، و بعد الاستلام يتحقق لكل منها دليل علي مالكية ما في يده، و لا دليل بدونه، فاذا لم تكن حاضرة دائرة بأن كانت نسيئة أو سلفا أو غير مأخوذ و مقبوض، فلا تتحقق بدون تصريح من عقد بلفظ، فان وجوب الوفاء كما سيأتي بحثه إن شاء اللّه متعلّق بكل عقد و عهد، فلا

بدّ في كل معاملة من عقد لا سيّما في البيع و الإجارة الكثير الابتلاء بهما كما لا يخفي.

و من توجيه التكليف يستنبط أن طرفي المعاملة و هما المتعاملان حين إيجادهما التبادل عن تراض بل كل معاملة بعقد أو قبض لا بدّ و أن يكونا بالغين عاقلين ليصحّ نهيهما عن أكل المال بالباطل كما يستفاد اشتراط حق التصرّف بالتبديل بأن يكونا مالكين أو وليين أو وكيلين عنهما أو بالاختلاف.

أما الفضولي الأجنبيّ فيقع عقده معلّقا حتي يلحقه إذن المالك، فيرتبط به

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 105

و التصرّف تصرّفه و يتنجّز، و قد أمضاه الشرع المقدّس بما عرفت من إطلاق التجارة عن تراض، و الإذن يحقق التراضي فيصير تجارة عن تراض و قد صرّحت به السنّة المباركة حيث قال رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لعروة «1»: «بارك اللّه في صفقة يمينك»، و تفصيل ذلك كلّه في المفصّلات.

و الذي علينا في المقام حسب وضع الرسالة تحقيق موارد ردع الشارع المقدّس لها بعد ما عرفت ان الصحة العقلائية كافية من دون افتقار الي إمضاء، و قبل ذلك نستفسر ما يرتبط بمطلق التجارة أو خصوص البيع.

قال تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ إِلّٰا مٰا يُتْليٰ عَلَيْكُمْ. (المائدة [5] الآية 1)

تأمر الآية الكريمة صريحا بالوفاء بالعقود، و مقتضاها أمرا وجوبيا علي ظهوره؛ و للتوضيح في المقام نقول:

العقود جمع عقد، و هو إيجاد ربط بين شيئين ليصيرا شيئا واحدا بعد ما لم يكونا كذلك، كالعقد بين خيطين، ثم استعمل العقد في إيجاد العلقة و الربط بين شخصين كعقد النكاح، و استعمل العقد في العلقة بين شخص و مال كعقد الصلح و الهبة، و استعمل العقد

أيضا في إيجاد ذلك الربط متقابلا بتبديل مال بمال، فيؤخذ ربطا مكان ربط كعقد البيع و الإجارة، ثم انه استعمل في كل ربط اعتباريّ كالضمان و تعاهد العمل و الشرط خلال عقد آخر.

و عليه فتشمل كلمة جميع العهود و العقود بين الناس بعضهم مع بعض بل

______________________________

(1)- الفضولي في طرف واحد مع مالك السلعة أو الثمن أو وليّه أو وكيله لعلّه يعدّ عقلائيا لا سيّما مع احتمال إجازة الآخر، و عروة بما هو من العقلاء عمل ذلك قبل إمضاء الشرع فأمضاه رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، و يستفاد منه إمضاء مطلق الفضولي و منه المورد، و أما في الطرفين بأن يبيع أجنبيّ مال الغير بأجنبيّ آخر و يشتريه هو أيضا ففي كون ذلك عملا سفهيّا أو معاملة عقلائية تتم صحتها بعد الردع بعد لحوق الإجازة تأمّل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 106

بينهم و بين اللّه تعالي كالنذر و العهد و اليمين «1» فيجب الوفاء بمقتضي كلّيته لزوما و جوازا المستفاد من ماهيّة العقد علي اختلافها في مقتضياتها و في الجواز و اللزوم عرفا و عقلا، و قد أمضاها الشارع المقدّس أو تصرّف في بعضها علي تفصيل في محلّه.

و أما الإيجادات الاعتبارية التي ليس فيها إلا طرف واحد كالعتق و الطلاق و الهبة في بعض صورها و كذا الوقف علي الجهات العامة كالمسجد، فان في بعضه فكّ الملك و في غيره تحبيس العين و تسبيل الثمرة «2» لانتفاع الغير، فليست هي بعقد، و يسمّي اصطلاحا ايقاعا كما لا يخفي.

و نتيجة التأمّل فيما ذكرنا أن وجوب الوفاء الشامل للشرط و هو الالتزام المرتبط بالآخر مختصّ بما لم يكن مخالفا لمقتضي العقد و الالتزام الأول، فيصح

البيع مثلا بشرط أن يعمل له الخياطة دون أن لا ينتفع من المبيع أو عدم القبض و الإقباض، و لذلك يقع العقد الأول صحيحا و يلغي الشرط الفاسد الثاني لتعلّقه

______________________________

(1)- الظاهر ان العهد و النذر و اليمين من الإنشاءات التي لا يتوقّف تحققها علي القبول بل يوجد بايجادها مع شروطها من رجحان المتعلّق دينيا و دنيويا، كما سيأتي بحثه إن شاء اللّه، و اذا كان العقد عهدا، يشمله جميع أدلّة وجوب الوفاء بالعهد علي ما سيأتي بحثه في كتاب العهود و الأيمان إن شاء اللّه.

(2)- من المعلوم ان الماهيّات المخترعة الاعتبارية شرعا أو عرفا يعلم حدودها من الآثار و الأحكام المترتّبة عليها، و الموقوف كأنه ليس بمهيّة واحدة بل هو إنشاء و إيقاع في بعض موارده بمعني عدم توقّف تحققه علي القبول كما في الموقوفات العامة مثل الحمامات و المدارس و الطرق، و هو عقد في الآخر أي لا يتمّ إلا بالقبول كالوقف للمسجد و قبوله الصلاة فيه أو للأولاد أو العناوين مثل الفقراء و قبوله تصرّف طبقة الموجودين أو وليّ الفقراء.

ثم انهم عبّروا في المسجد بفكّ الملك و في غيره عامّا كان أو خاصّا بدليل و جواز بيع غيره في موارد خاصة كما في المفصّلات كذلك.

و الأقرب أن ماهيّة الوقف في المسجد تغايرها في غيره حتي في المصالح العامة كالمدارس و الطرق، ففي الأول إنشاء و إيقاع بفكّ الملك كالعتق و لا يتوقّف علي قبول، فلا مالك له إلّا مالك الملوك، و في غيره عقد حقيقة الإيقاف في الملكية لئلا تقع التقلّبات الناقلة ممن له الانتفاع و يتوقّف تحققه علي القبول و هو في العامة تصرّف بعض المؤمنين و في الخاصة قبول طبقة الموجودين

و الملكية تتعلّق بالمسلمين في العامة يتصرّف فيه وليّهم لدي الضرورة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 107

بالحرام مثلا أو لكونه خلاف مقتضي العقد، و وجه الاختصاص ان وجوب الوفاء متعلّق بالعقد و لكل عقد مقتضي خاص، و الالتزام المعلّق به لو لم يساعده فهو غير عقلائي كالنكاح بشرط عدم الاستمتاع فلا تحقق له حقيقة ليسري إليه وجوب الوفاء.

و لا يصغي الي ما قيل من أن الالتزام الأول العقد بدون ذلك الشرط غير مقصود و المقصود غير واقع فلا بدّ من فسادهما دون البعض فان لكل منهما مفادا مستقلا مقصودا و الارتباط مطلوب ثان فيبقي الأول بعد زوال الثاني.

العوضان

ثم ان المال المتبادل في التقلّبات العرفية و التصرّفات العقلائية لا بدّ و أن يكون معلوما محددا بوجه، ثمنا كان أو مثمنا، في البيع و علي الاطلاق العوضان في كل معاملة و معاوضة، فان المجهول المطلق حتي بمشاهدة نموذج منه، لا يعامل عليه عرفا و لا عقلائيّا و لو في طرف واحد «1»، و من ذلك يبدو الافتقار الي الوزن و العدّ، و يتحقق الربح و الخسران، فان العوضين هما الملاك في تحققهما عرفا.

و من المعلوم ان التبديل بين شيئين متساويين من جميع الجهات جنسا و نوعا و صنفا و وزنا أو عدّا في زمان واحد غير عقلائي إلّا ما شذّ و ندر، كما اذا كانت المصلحة في نفس المبادلة و لا بأس به مع إختلاف الزمان.

و اما مع التفاوت، ففي المكيل و الموزون و المعدود مع اتحاد الجنس و الزيادة (بشرط الزيادة) ربا باطل و ان كان عقلائيا فانهم يقولون: إنما البيع مثل الربا، و انه منه، أو البيع مثله، و ليس هو مثل البيع، و قد

أحلّ اللّه البيع الذي يدور عليه الاقتصاد المتكامل الصحيح الشامل، و حرّم الربا المترتّب عليه الانحراف الاقتصادي و التمركز

______________________________

(1)- و لعلّ المراد من بيع الغرر المنهيّ عنه- في ما نسب الي النبي (صلّي اللّه عليه و آله) أنه نهي عن بيع الغرر- هذا المجهول المطلق، لا خصوص التغرير و لا فيما اذا كان الجهل بحيث لا يرده العقل أحيانا، كما اذا كانت المبادلة بثمن يربح كائنا ما كان المثمن بعد المشاهدة كبيع الصبرة بما فيه إلّا أنه ليس بمجهول مطلق مع ان ذلك أيضا غير عقلائي عندنا بمعني ان المتعارف بينهم غير ذلك و ان أمضوا مثل ذلك أحيانا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 108

في ناحية من غير عمل، و سنشير إليه في بحث الربا إن شاء اللّه.

و مع اختلاف الجنس مطلقا- سواء كان التبادل بالتساوي أو مع التفاوت بالأكثر، و هو الغالب لدي العقلاء، المتعلّق به أغراضهم اليومية في معيشتهم العادية الفردية و الاجتماعية المعمول بينهم بمقياس و ميزان، أو بالأقل لغرض- فلا بأس به.

تعادل الميزان

و عندئذ فلا بدّ من رعاية القسط في الميزان، و العدل في المقياس الذي يوزن به أو يعدّ، و التخسير فيه التطفيف أكل للمال بالباطل و نوع سرقة لدي العقلاء و تصرّف في مال الغير بغير رضاه، فان الزائد المأخوذ أو الخاسر الباقي غير المردود، هو مال الغير، و أكله فجور باطل. و الميزان الذي يتعادل به حق الطرفين حتي لا يتعدّي بأحدهما ضروريّ لازم عقلائيا و شرعا حتي لقد قارن اللّه تعالي وضعه مع رفع السماء، و كأن بقاء الأرض علي ما هي عليها يرتبط بتعديل معيشة الناس، فإنّ رفع السماء المرتبط بوضع الأرض لا يتمّ إلّا بنصب الميزان

و جعله المقياس العادل في الأمور مطلقا، و في المباراة بالأخص؛ و لذلك نهي اللّه تعالي عن الطغيان في الميزان أو التخسير فيه و أمر باقامته بالقسط، قال تعالي:

وَ السَّمٰاءَ رَفَعَهٰا وَ وَضَعَ الْمِيزٰانَ* أَلّٰا تَطْغَوْا فِي الْمِيزٰانِ* وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا تُخْسِرُوا الْمِيزٰانَ. (الرحمن [55] الآيات 7- 9)

ثم أكّد ذلك و أوعد المطففين بالعذاب و هم الَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا عَلَي النّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ منهم و يأخذون تمام الحدّ و كمال الحق، وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ و ينقصون حقّهم، فيعطونهم أقلّ من مالهم و يتركون شيئا منه، فيظنّ القابض تمام الكيل و الوزن و يعتقد انه أخذ حقّه، و يظهر له ذلك الخسران عند ارتفاع الحجاب و انكشاف الحق يوم تبلي السرائر، و الربح حينئذ للخاسر في الدنيا، أَ لٰا يَظُنُّ أُولٰئِكَ الذين يطففون أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النّٰاسُ بأجمعهم: الخاسر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 109

و الرابح، البائع و المشتري، المعطي و القابض، و من بيده الميزان و المقياس و من يأخذ بهما لربّ العالمين الحاكم بالعدل بينهم؟!، و من آمن بذلك اليوم و البعث فيه بل من ظنّ به يترك التطفيف فكيف اذا علم و تيقّن «1» مع بقاء الكلمة علي ظاهرها، قال تعالي:

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا عَلَي النّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَ لٰا يَظُنُّ أُولٰئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النّٰاسُ لِرَبِّ الْعٰالَمِينَ. (المطففين [82] الآيات 1- 6)

و قال تعالي:

.. وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ لٰا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلّٰا وُسْعَهٰا.

(الأنعام [6] الآية 152)

فان دلالة الآيات الكريمة علي وجوب إيفاء الكيل و الوزن و أداء حق طرف المعاملة، بايعا كان أو مشتريا،

في الثمن أو المثمن، و علي الإطلاق في العوضين، مطلقا ظاهر، كما لا يخفي.

و حيث ان هذا أمر فطريّ عقلائي يوجد في سائر الشرائع، فقد حكي اللّه تعالي عن نبيّه شعيب (عليه السّلام) حينما نصح قومه، و جعل ذلك في سياق عبادة اللّه تعالي و أنّ المؤمن به تعالي يراعي الحق، فقال: يٰا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ وَ لٰا تَنْقُصُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ إِنِّي أَرٰاكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ* وَ يٰا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. (هود [11] الآية 84- 85)

فيحرم إذن البخس و التطفيف.

______________________________

(1)- و لا يبعد أن يكون المراد من الميزان ما يعرف به الحق الخالق الفاطر للنظام العلوي أي السماء و ما فيها، و السفلي أي الأرض و من عليها بملاحظة السياق.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 110

البيع

اشارة

و هو مبادلة مال بمال آخر بتمليكه- عينا كان أو منفعة- و هو الأكثر تداولا بين الناس من أقسام التجارة، و قد عرفت أن الأصل إباحته بجميع أقسامه التي هي النقد و النسيئة و السلف، و الأول بأقسامه التي هي المساومة و المرابحة و المواضعة و التولية «1»، و قد أشرنا من قبل ان في نوع من المرابحة مع اتحاد الجنس ردعا شديدا و منعا أكيدا، فانه ربا محرّم.

الرّبا

و فيه آيات؛ الأولي- قوله تعالي:

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا لٰا يَقُومُونَ إِلّٰا كَمٰا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطٰانُ مِنَ الْمَسِّ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قٰالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبٰا وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا فَمَنْ جٰاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهيٰ فَلَهُ مٰا سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَي اللّٰهِ وَ مَنْ عٰادَ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ* يَمْحَقُ اللّٰهُ الرِّبٰا وَ يُرْبِي الصَّدَقٰاتِ وَ اللّٰهُ لٰا يُحِبُّ كُلَّ كَفّٰارٍ أَثِيمٍ.

(البقرة [2] الآية 275- 276)

مثّلت الآية الكريمة الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا بالذي يتخبّطه الشيطان من المسّ فلا يشعر شيئا و لا يقوم علي قدميه مستويا، بل يهوي الي يمينه و شماله ليسقط، فكلّما يريد أن يقوم يهوي الي طرف آخر فيمشي غير مستو فينظر إليه كل عابر و يراه متزلزلا.

و الحق: ان من يأكل الربا، كذلك حاله في الدنيا و الآخرة لا في القيامة فقط، و العلّة الأصلية لذلك التخبّط و المرض هي توهّمهم بأن البيع مثل الربا و انهما متساويان علي حدّ يكون الربا أظهر و البيع مثله لا أنه مثل البيع، و قد أحلّ اللّه البيع

______________________________

(1)- المساومة و هو أفضل الأفراد من تعيين الثمن و المثمن بدون ذكر رأس المال و مع ذكره الأقسام الأخري من: المساواة فالتولية أو

الزيادة فالمرابحة أو النقيصة فالمواضعة كما لا يخفي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 111

علي الإطلاق بجميع أقسامه و حرّم الربا تحريما أكيدا، و بعد ذلك التحريم الصريح و المنع الأكيد، فمن جاءه حكم اللّه و حدّه و عرف الأمر و سمع الوعظ فانتهي لنهي اللّه و حكمه و أطاع أمره، فلسوف يعفو اللّه تعالي ما قبله من أكل الربا قبل الاسلام أو قبل علمه بالحكم و هو في الاسلام، و أما من عاد فينتقم اللّه منه، و هو من أصحاب النار الخالدين فيها، فان اللّه تعالي يمحق الربا و يسحقه و يعدمه، و يربي الصدقات و يزيد في ثمراتها في الدنيا و الآخرة.

و أنت تعلم دلالة الآية الكريمة علي حرمة الربا بأصرح من كل صراحة و بأشدّ لحن و أقوي بيان، و الإطلاق يعطي الحرمة في عمله فالمعطي و القابض و الواسطة بينهما و الكاتب لهما و الشاهد عليهما شركاء في الإثم.

الثانية- قوله تعالي:

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هٰادُوا حَرَّمْنٰا عَلَيْهِمْ طَيِّبٰاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ كَثِيراً* وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ وَ أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ مِنْهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً. (النساء [4] الآية 160- 161)

الآية الكريمة تدلّ علي ان الربا كان محرّما علي الذين هادوا، و أنهم نهوا عنه، و قد عصوا و ظلموا بأكلهم الربا و صدّهم عن سبيل اللّه و أكلهم أموال الناس بالباطل فحرّم اللّه عليهم طيّبات كانت محللة لهم، و هيّأ للكافرين منهم عذابا أليما، و نقل هذا في السياق يفيد بقاء الحرمة في الاسلام أيضا كحرمة سائر المذكورات و لا سيما مع بيان ان الراسخين المؤمنين منهم يؤمنون بما أنزل الي رسول اللّه (صلّي اللّه

عليه و آله و سلّم) و ما أنزل من قبله، فان ذلك صريح في بقاء الحرمة في الاسلام.

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَ ذَرُوا مٰا بَقِيَ مِنَ الرِّبٰا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوٰالِكُمْ لٰا تَظْلِمُونَ وَ لٰا تُظْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 278- 279)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 112

تأمر الآية المباركة بترك ما بقي من الربا بعد الأمر بتقوي اللّه تعالي، و تؤكّد هذا الأمر باشتراط الايمان فتقول: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فان عدم إطاعة اللّه تعالي يوجب الخروج عن الايمان، و تؤكّد الآية ثانية بأن العصيان في المقام هو إعلان الحرب علي اللّه تعالي و رسوله، فتدلّ بأشدّ بيان و بأغلظ مراتب الحرمة بالنسبة الي أصل الربا، نعم تفيد الآية الكريمة أيضا بعدم اليأس بما أخذ قبل الاسلام أو قبل العلم بالحكم في الجملة.

الرابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعٰافاً مُضٰاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (آل عمران [3] الآية 130)

الآية الكريمة- كما تراها- و ان كانت راجعة الي النهي عن التضاعف في أخذ الربا من محاسبة ربح الربح، إلّا أن دلالتها علي حرمة الربا ممّا لا يخفي من فرضها مفروغا عنها.

و من المعلوم ان الإطلاق في الآيات يقتضي جريان الربا في جميع المعاملات و المفاوضات و العهود المالية بيعا كان أو قرضا أو غيرهما، إلّا أنه لا يساعده طبع العقد و العهد كالصلح و الهبة مثلا و إن قيل بجريانه فيهما أيضا اذا كانا معوضين.

كما انه يقتضي الحرمة بين الأب و الابن أو الزوج و الزوجة أيضا، إلا ان السنّة المباركة المبيّنة استثنت ذلك كاستثنائها بين

السيّد و العبد أو المسلم و الحربي من أخذ المسلم منه.

و لكن بالتأمّل في خصوصيات الموارد يعلم أنّه لا استثناء حقيقة، فان الأمر صورته ربا و سيرته خروج المال من كيسه الي كيسه الآخر في غير الأخير و فيه اصطياد و إخراج مال ممن يجوز تملّك ماله. ألا تري أنهم يثبتونه في المسلم و الذمّي كما هو ظاهر.

و أما التقييد بالمكيل و الموزون و اختصاص الربا بهما دون ما يعامل بالعدّ أو

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 113

المشاهدة فمستفاد من الغلبة و الانصراف إليهما بكثرة الوجود، و الشكّ في غيرهما يوجب توقيف سراية الحرمة التي علي خلاف الأصل، و لكن السنّة المباركة- بحمد اللّه- أوضحت الأمر في الاطلاق و التقييد و ان كان لا يبعد الإرشاد فيها عندنا.

ثم ان الناظر في الآيات المحرّمة للربا بلحنها الشديد لا سيما بعد النظر الي تعبيرات السنّة المباركة أيضا، يتساءل عن سرّ ذلك و دليله، و انه كيف يمكن ان يكون درهم ربا يساوي سبعين زنية بذات محرم في بيت اللّه الحرام، كما عن الامام الصادق (عليه السّلام)؟!، ثم كيف يمكن تحليل مثل ذلك الحرام المشدد بحيل مدرسية لا يعرفها العرف بل يصعب تصوير بعض صورها علي أهل الفن فكيف المتعاملين علي تعارفاتهم العادية.

فالعجب من أصل التحريم بهذه الشدّة أوّلا مع ان ظاهره كالبيع، و الأعجب منه تحليل ذلك الحرام بحيل مختلفة كما عن أكثر المتأخّرين مستندين الي قواعد و روايات، إلا ان التأمّل في المقامين يكشف عن وجه الحقيقة، و الربا أقوي العوامل في طريق استغلال الثروة و استعباد الناس من دون عمل و كدح، ينتهي الي شقاق و عداوة، اذ يؤدّي المدين أضعافا مضاعفة من دينه و يبقي

مدينا رغم نشاطه و عمله.

و الدائن عاطل مماطل، فينبثق من ذلك: الاختلاف و العداوة و البغضاء مضافا الي تخفيف بل تعطيل في عوامل الانتاج و ركود في موارد التزايد و أصوله، كما حقق في محلّه عند بيان المسائل الاقتصادية علي ضوء الاسلام، فهو من أشدّ الذنوب ضررا في الامور الاقتصادية، اضافة الي تولّي الكفّار أعظمها في الأمور السياسية- كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه في كتاب المحرّمات- و استقلال كل أمّة و ملّة قائم علي الاستقلال السياسي و الاقتصادي- كما تعلم-.

و أما تحليل ذلك الحرام بالحيل المختلفة فلا نقول به بوجه من الوجوه أصلا فان الحيلة حيلة، و البيع و الصلح بيع و صلح، و المباحث المدرسية غير ما يعمل به في العرف المتعارف، و الروايات علي الرأس و العين في مواردها، و لم ترد لتحليل

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 114

الحرام بل لبيان ماهيّتي الحلال و الحرام فيها، و إمكان قلب الماهيّة في الأمور الاعتبارية بسهولة غير تحليل الحرام مع حفظ الماهيّة، و تمام الكلام في رسالتنا «مباحثات فقهية».

خاتمة في بحث البيع:

ثم انك عرفت من قبل ان العوضين في المعاملات لا بدّ و أن يكونا مالين علي الاطلاق ليصحّ التبادل بهما، و حينئذ فان كان ذلك المال علي وجه له ماليّة عند بعض دون بعض لحكم شرعيّ كالخمر و الخنزير أو لاختلاف رغبات العرف حسب اختلاف المناطق أو انه يصحّ تملّكه لبعض دون بعض لذلك أيضا- كالمصحف الشريف و المملوك المسلم لا يملكه كافر، فيختلّ ركن المعاملة و يبطل في المورد، فان المملوك المسلم لا يملكه كافر، فيختلّ ركن المعاملة و يبطل في المورد، فان المملوك المسلم يصحّ بيعه بمسلم دون الكافر لحرمة تسليطه عليه، وَ لَنْ

يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا «1»، كما ان بيع الخمر و الخنزير المملوك للكافر يصحّ بالكافر دون المسلم فيملك الكافر ثمنه و يجوز للمسلم تملّك ذلك الثمن بأسباب الانتقال.

الإجارة

الإجارة بعد البيع هي أكثر شيوعا للمعاوضات المالية و أشدّ المعاملات التجارية رواجا و ألزمها، و هي- بماهيّتها- غير البيع عرفا و عقلائيا و كذلك شرعا، فان الأول (البيع) تبديل مال بمال بتمليكه- عينا كان أو منفعة «2» - المستلزم لوجود

______________________________

(1)- (النساء [4] الآية 141)، و قد استنبطوا من ذلك ان الكافر اذا أسلم عبده قهر علي بيعه لمسلم و إلا باعه الحاكم و سلّم إليه الثمن، و كذلك جواز بيع أمّ ولده اذا أسلمت و أشباه ذلك، و الحق أنها تدلّ علي عدم جواز كل ما يورث تسلّط الكافر علي المسلم في مطلق الروابط الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و الثقافية و الصناعية و غيرها.. دون خصوص العهود و المعاملات لا سيما مع التوجّه الي صدر الآية الكريمة- كما لا يخفي-.

(2)- كبيع ثمار الأشجار قبل أوانها و بعد بدو صلاحها المتداول في كل زمان، فان الذي يشتري ثمار بستان-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 115

العوضين في الخارج حقيقة أو اعتبارا أو في الذمّة «1» أو بالتفريق بحيث يوجب تغيير محل الملك و المال بعد عقد التمليك و تحقيق التبديل في عالم الاعتبار فيتحصّل الزائد النامي في ملك المالك الجديد و يتقابض كل من المتعاملين ملكه عن الآخر.

و أما الثاني (أي الإجارة) فهي تفويض حق الانتفاع و تمليكه بعوض معيّن في مدة معيّنة، فيجعل المؤجر العين المستأجرة تحت تصرف المستأجر حتي يستوفي حقّه منها و ينتفع بها تدريجيا مع بقاء العين في ملك مالكها مطلقا، و

المستأجر يملك الانتفاع لا المنفعة، و لذلك تتوقّف علي ذكر الأجل و معلوميّته في الجملة، علي وجه يرتفع به الغرر، و بدونه باطل غير متحقق بماهيّتها، كما ان الترديد أيضا بمقدار يبقي معه الغرر ينافي تحقق تلك الماهيّة، فان المفوّض و هو حق الانتفاع و المتعلّق و هو العين المنتفع بها أو العامل المنتفع بعمله «2» لا بدّ و أن يكون مشخّصا محدودا يرتفع به الغرر؛ و لذلك أيضا لا يلزم أن تكون المنفعة موجودة بالفعل، بل اللازم فعليّة قابليّة الانتفاع سواء كانت المنفعة بأجمعها أو شي ء منها متحصلة أو لا، فلا نحتاج إذن الي توجيهات صاحب الحاشية المحقق الأصبهاني (ره) من تعلّق الإجارة بالاجتناء في استئجار البستان، و بالحلب في استئجار البقر و الغنم لبنها و هكذا في إجارة البئر.

فما هو المتعارف إذن في استئجار مثل السيارات في كل ساعة بكذا مقدار أو الي البلدة الفلانية بكذا مقدار، أو في استئجار الحجرات و الغرفات في الفنادق لكل ليلة بكذا مقدار من غير تعيين الزمان، فهو إجارة أيضا عندنا لعدم الغرر، و توافق

______________________________

- بأنواعها أو نوع واحد سواء كان تفّاحا أو سفرجلا أو عنبا أو زيتونا أو برتقالا أو موزا أو غيرها بعد بدو أوانها فهو مشتر لها و يملك منفعتها و تتحصل في ملكه، و مالك الأشجار بائع الثمرة، و الثمر هو المبيع، و بدو الصلاح شرط لإمكان تحديده في الجملة، و هي منفعة لا عين، و العقد بيع لا إجارة.

(1)- و قد عرفت ان بيع الدين بالدين اذا كان حاصلا بسبب آخر قبله و كان غير مؤجّل أو حلّ أجله فلا بأس به كالحاصل بنفس البيع مطلقا، و الباطل هو بيع الدين بالدين

الحاصل بسبب آخر قبل البيع و كان مؤجّلا لم يحل أجله لعدم المالية في الحال بوجه و في الحال علي الاحتياط.

(2)- و لو كان من الواجبات الكفائية و لا بأس بالأجرة علي الواجب و لو كان عينيا علي ما أثبتناه في محلّه بعد إمكان قصد القربة- فراجع رسالتنا: «القضاء في الاسلام» / ص 50 الي 65.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 116

و تعاط عند الأصحاب لا استيجار و إجارة ليترتّب عليها آثارها من جواز تفويض حق الانتقاع بالغير اذا لم تتقيّد الإجارة بانتفاع نفسها، و غيره من الآثار، مع انه لا بأس بالترتّب فيها.

و التعريف المشهور بتمليك المنفعة بعوض- كتعريفهم البيع بتمليك العين بعوض- لا يخلو من تسامح.

و كيف كان، فان تعارف الإجارة و شيوعها بل توقّف قسم من المعيشة الاجتماعية عليها و عدم وجود ردع من الشارع المقدّس لا يتوقّف إثبات شرعيتها علي قصة موسي و شعيب (علي نبيّنا و آله و عليهم السلام) التي حكاها اللّه تعالي الي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) نقلا عن ابنة شعيب، فقال تعالي:

قٰالَتْ إِحْدٰاهُمٰا يٰا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ* قٰالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَي ابْنَتَيَّ هٰاتَيْنِ عَليٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمٰانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ … (القصص [28] الآية 26- 27)

ثم التكلّف بالاستمداد من الأصل و الاستصحاب أو عدم نسخها لبقائها في شريعتنا؛ فان الأصل في المعاوضات بل المعاهدات العقلائية- كما عرفت- الجواز ما لم يردعه الشارع المقدّس، مع ان الآية الكريمة لا تعطي أصل المشروعية في الشريعة السابقة بل انها تحكي عملا بعد الفراغ من ذلك الأصل بدليل آخر و هو بناء العقلاء، فلا يخلو ما استدلّ به

الفاضل المقداد (رضوان اللّه عليه في كنزه) «1» و استدلاله من نظر، كما أشار إليه المحقق الأردبيلي (رضوان اللّه عليه) في ص 463، و ان كان تصديقه دلالة الآية علي أصل الأمر في غير محلّه- كما عرفت-.

و كذلك الأمر في سائر المعاوضات العقلائية و ما يلحق بها من الشركة و المضاربة الي الوكالة و القرض و كل قرار و عهد يتناوله العقلاء بما هم كذلك و إن

______________________________

(1)- المجلد الثاني: ص 73.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 117

أمكن استئناس بعضها من بعض الآيات الكريمة.

الدين و الرهن و الضمان

اشارة

ثم بعد تحقق البيع أو الإجارة بل كل معاوضة مالية و بعد تملّك كل ما كان ملكا للآخر قبله، فان تحقق التقابض و وقعت المبادلة بينهما فتكون حينئذ التجارة حاضرة و يتمّ الأمر، و إلا فيبقي مال كل واحد من المتبايعين في عهدة الآخر و يجب عندئذ أداؤه، و تشتغل ذمّته بأداء مشخصه إن كان مشخّصا حسب الصدق العرفي أو الكلي إن لم يكن، و كذلك اذا تحقق التقابض من طرف دون آخر فيبقي في ذمّته فقط، و بذلك يتحصّل الدين و اشتغال الذمّة و يصبح أحدهما مديونا و الآخر دائنا بالمعني الأعم، و ان كان أكثر موارده الكلية بحيث صار معناه الأخص ذلك.

و عندئذ فقد يؤخذ الزمان في الردّ و أداء الدين حسب توافقهما فلا يجب الأداء و لا القبول قبل انقضائه، و بدونه يجب ذلك عند الردّ و المطالبة.

الكتابة:

و حيث ان الأجل و الزمان لا يخلو من تغيير و حدث في طرفي التبادل (المالكين) و ما يطرأ عليهما من موت أو نسيان أو جحود، أو في طرفي التبديل (المالين) و كيفيتهما من التلف و النقص و اختلاف القيمة السوقية حتي في الكلّي الذمّي كاختلاف العرض بين البلاد و الممالك الموجب لاختلاف قيمة الأثمان الرائجة حسب المعاملات العامة علي المستوي العالمي، فالحكم العقلائي و الأدب الاجتماعي و التعارف العملي يستدعي الاطمئنان و الوثوق علي تحفّظ كل أحد لماله قبال الحوادث من إيجاد سند قاطع و كتابة رسمية تعرفه المحاكم، أو تضمين ظاهر برهان مقبوضة أو ضمان و تعهّد مشهود عليه حتي يستند الي الكتاب في المحكمة أو يستوفي من مال الرهان أو يطالب من الضامن اذا لزم.

و قد أمضي الشارع المقدّس ذلك كلّه

و أرشد إليه في آيات مباركة، قال تعالي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 118

في الأول:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِليٰ أَجَلٍ مُسَمًّي فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ … (البقرة [2] الآية 282)

أمر اللّه تعالي صريحا بالكتابة لدي التداين الحاصل من أيّ معاملة مالية و معاوضة تجارية أو قرار و تعاهد أيضا مثل القرض فان الملاك وجود الأجل لأخذ المال حسب التوافق و القرار و ثبوته في العهدة بأيّ سبب، و الأمر ذلك إرشادي مثل عدالة الكاتب و الشهادة علي الكتابة كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه في الشهادات و الأساس إمكان الاستيفاء في المحاكم الشرعية.

الرهن:

و في الثاني؛ قال تعالي:

وَ إِنْ كُنْتُمْ عَليٰ سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كٰاتِباً فَرِهٰانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمٰانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 283)

فان الرهن أخذ الوثيقة لكسب الاطمئنان حتي يستردّ المال و يستوفي الحق بعد انقضاء الأجل، و يردّ مال الرهان بعد الاستيفاء و لا دخل للسفر و عدم الكاتب، و القيد وارد في مورد الغالب كما هو ظاهر، و لا رهان و لا وثيقة بعد الوثوق و الاطمئنان، و قد أمر اللّه تعالي بردّ الأمانة الي صاحبها. و من المعلوم أن الاستشهاد علي المعاملة أو الكتابة و وجوب أداء الشهادة و حرمة الكتمان.. كل ذلك للاطمئنان.

و أنت تعلم ان الوثيقة ملك للراهن و أمانة لدي المرتهن لا يضمنه إلّا بالتفريط دون التلف كنفس العوض المشخّص بعد العقد و قبل التقابض، فانه أمانة أيضا لدي البائع أو المشتري.

الضمان:

قد يفهم الضمان من قوله تعالي: وَ لِمَنْ جٰاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 119

زَعِيمٌ (يوسف [12] الآية 72)، و من قوله تعالي: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذٰلِكَ زَعِيمٌ (القلم [68] الآية 40) أيضا، و انت تعلم أنهما تخبران عن كون الضمان أمرا عقلائيا معمولا به، أي من قبول ضامن الدين، و تعهّده بأداء المال لو لم يؤدّه المدين أيضا، و للدائن الرجوع إليه عند عدم ردّه لا في عرضه فانه هو الذي اشتغلت ذمّته أولا دون الضامن، و كذلك الأمر في الكفالة.

الكفالة و الوكالة و الأمانة

الكفالة:

و هو تضمين احضار من عليه الدين في وقت معيّن لأداء الدين أو غيره، فله الرجوع الي المكفول عنه أولا ثم الي الكفيل علي شروط و حدود متعارفة لدي العقلاء.

الوكالة:

و قريب من ذلك الوكالة التي هي استنابة الغير لإنفاذ أمر علي حدود مشخّصة علي ما هو المتعارف بين العقلاء مع بقاء سلطة الموكل و تقدّم حقّه علي ذلك الأمر، و قس علي ذلك في سائر العقود و العهود المتداولة بينهم، و لم يردع عنها الشارع المقدّس، سواء لم يبحث عنها في القرآن الكريم أو أشير إليها فيه بنحو مثل الأمانة.

الأمانة:

قال تعالي:.. فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمٰانَتَهُ. (البقرة [2] الآية 283)

فان مال الغير المودع لدي الانسان سواء كان للوثاقة و الاطمئنان، أو حصل لديه بدون علم مالكه، فهو أمانة شرعية أو عقلائية عنده، لا بدّ من ردّه الي مالكه و يضمنه اذا اتلف. قال تعالي:

إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِليٰ أَهْلِهٰا. (النساء [4] الآية 58)

و الأمر هنا يعطي الوجوب، و قال تعالي في ذمّ بعض أهل الكتاب:.. وَ مِنْهُمْ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 120

مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينٰارٍ لٰا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلّٰا مٰا دُمْتَ عَلَيْهِ قٰائِماً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قٰالُوا لَيْسَ عَلَيْنٰا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَي اللّٰهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ. (آل عمران [3] الآية 75)

و النهي هنا يدل علي حرمة عدم الردّ و الخيانة، و الذمّ لا يختص بهم بعد ذكر الملاك و انهم يكذبون و هم يعلمون، فلا بدّ من احترام مال المؤمن و ترك التصرّف فيه بغير رضاه، بَليٰ مَنْ أَوْفيٰ بِعَهْدِهِ وَ اتَّقيٰ فَإِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، فاذا أودع شخص ماله لدي غيره فهو أمانة عنده يجب ردّه عند المطالبة، و يضمنه بالإتلاف فانه تصرّف فيه بغير رضاه دون التلف بعدم الانتساب إليه، و أما المصالحة فقد مرّ الكلام عنها في آخر بحث القضاء.

[النتائج]

تتميم في نتيجة الأبحاث؛ و فيه أمور:

الأول: كل ما يرغب فيه العقلاء لمنفعة أو لخاصيّة و لو كان للتزين به فهو مال يبذل بإزاء مال آخر.

الثاني: من حاز شيئا أو اصطاد حيوانا من برّ أو بحر فهو له أو كالذي أحيي أرضا فهي له، و له الدفاع عنه و منع غيره عن التصرّف فيه.

الثالث: كل تبديل في الأموال مع التراضي جائز لا بأس به، كتجارة عن تراض، سواء صدق عليها أحد العناوين المتعارفة

أم لم يصدق.

الرابع: البيع هو تمليك مال بمال، و الإجارة في تفويض حق الانتفاع في مدة معيّنة و تمليكه فيها بعوض معيّن.

الخامس: كل معاملة يعدّها العقلاء صحيحة تكون كذلك شرعا ما لم يردع عنها، كما ان كل ما يكون باطلا لديهم كالقمار و السرقة أو منعه الشرع بنوعه كالربا أو نفي ماليّته العوض كالخمر و الخنزير فهو باطل و غير واقع شرعا أيضا.

السادس: كل مبادلة مالية تقوم علي أربعة أسس و هي: مالان و مالكان، و لا بدّ فيها من مظهر سواء كان لفظي العقد أو عملي الأخذ، و الإعطاء المسمّي بالمعاطاة هو تجارة حاضرة تديرونها، و يشترط في طرفي المعاملة البلوغ و العقل. و حق

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 121

التصرّف- أصالة أو ولاية أو وكالة أو نيابة- و اشتراط المالية في العوضين ظاهر بيّن.

السابع: بيع الفضولي و شراؤه بل كل عقد منه مع المالك يقع صحيحا و يتم باجازة المالك الآخر و لا يبعد صحته في طرفيه.

الثامن: يجب الوفاء بمقتضي كل عهد و عقد بين الناس بعضهم مع بعض في المعاملات و الشروط بل مع اللّه تعالي كالنذر و العهد و اليمين و الوقف و السكن و الصدقة، و أما اللزوم أو الجواز في العقد فمستفاد من ماهيّة العقود العقلائية و حدودها لديهم بعد عدم ردع الشارع المقدّس عنها، و أما الشرط في ضمن العقد فيجب الوفاء به ما لم يناف مقتضي العقد حسب ماهيّته.

التاسع: الشرط المخالف لمقتضي العقد أو الفاسد بطبعه كالمتعلّق بالحرام فاسد غير واقع دون العقد المرتبط به.

نتيجة بحث الربا؛ امور هي:

الأول: يحرم الربا و هو الزيادة في تبادل المالين مع اتحاد الجنس المكيل أو الموزون حرمة شديدة و هو من الكبائر و قد

أوعد اللّه تعالي عليه النار.

الثاني: آخذ الربا و معطيه و الواسطة بينهما و الشاهد عليه و الكاتب لهما شركاء في الوزر.

الثالث: التحيّل في تحليل الربا حيلة شيطانية، فهو حرام، و البيع و الصلح و أمثالهما حقيقة لا حيلة حلال واقع.

نتيجة بحث الدين و غيره؛ امور هي:

الأول: الدين و هو مال شخص في ذمّة شخص آخر يجب عليه أداؤه مهما أمكن إن لم يكن له أجل، و بعد انقضائه إن كان، و يجب علي صاحب المال القبض.

الثاني: لا بدّ من كتابة بين المتعاملين تحفّظا علي المال اذا لم تكن التجارة حاضرة دائرة و ليكتب الكاتب بالعدل.

الثالث: يجوز الرهان و جعل الوثيقة لدي الدائن ليطمئن علي ماله و يتمكّن من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 122

استيفائه اذا لزم، و الوثيقة ملك للراهن و أمانة لدي المرتهن لا يضمنه إلا بالتفريط و الإتلاف.

الرابع: لا بأس بالضمان و قبول عهدة الغير في اداء مال أو إتيان عمل بعمل فيرجع الي المضمون عنه أولا ثم الي الضامن ثانيا، كما في الكفالة فيرجع الي المكفول عنه أولا ثم الي الكفيل.

الخامس: اذا حصل مال الغير لديه بايداع أو غيره فهو أمانة شرعية أو عقلائية عنده لا بدّ من ردّه و يضمنه بالإتلاف دون التلف.

الي هنا انتهي كتاب التجارة، و يتلوه كتاب القرض- حسب ترتيبنا- إن شاء اللّه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 123

كتاب القرض

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 125

القرض

القرض ضرب من القطع، فيطلق علي ما يدفع من مال الي انسان ما لينتفع به مدّة ثم يردّه بعينه أو بدله إليه سواء كان القطع عن مال أو حق تصرّف مؤقّتا، و قد يطلق علي ما يردّ عينه «عارية» اصطلاحا، فماهيّتها واحدة في جعل مال أو عين في استمتاع شخص مؤقّتا مضمونا سواء صدق عليه التملّك المضمون كما عن الأصحاب، أو لا.

أصل القرض و مشروعيّته أمر عقلائي لا يحتاج الي تأسيس، و لم يردع عنه الشرع المقدّس بل انه رغّب إليه- كما عرفت في مقدمة التجارة.

و الإنسان الذي يعيش- بتعاونه مع

بني نوعه- في مكان من قرية أو مدينة أو بلد، قد يفتقر الي شي ء في زمان ما.. الي مال أو متاع فيجده اخاه المؤمن فيستمدّ منه العون و يستقرض منه، أي يطلب منه أن يجعل العين أو المال في استمتاعه مؤقّتا (مما تبقي عينه محفوظة) فيردّها بعد زمان، أو لا بأن يردّ ماليّته بالمثل أو القيمة بعده؛ فان أجابه و جعله في راحة فقد أعانه علي الخير و أحسن إليه، و استقرّ بذلك علي ذمّته دين، و المستقرض بعد انقضاء حاجته و التمكّن من الأداء يردّ علي المقرض أو المعير ماله، و ان شاء أحسن إليه هو أيضا بشي ء من زيادة فيصبح القرض مفتاح الأخوّة و المودّة لا مقراض العلاقة و المحبة، و ذلك ظاهر جار بين كل قوم و أمّة؛ و لذلك لا يتوقّف تحقّقه علي عقد خاص بل ينعقد بكل ما تعطي تلك الماهيّة من لفظ أو عمل.

و يدل علي ذلك في الاسلام أيضا- بعد الأدلة العامة من التعاون علي البرّ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 126

و التقوي و التسابق الي الخير و الإحسان و غيرها ممّا ستعرفه في موضوع: (المجتمع و الآداب) إن شاء اللّه- من أدلة خاصة بهذا الشأن من الآيات المباركة نشير إليها:

الأولي- قوله تعالي:

إِنْ تُقْرِضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً يُضٰاعِفْهُ لَكُمْ … (التغابن [64] الآية 17)

تخبر الآية الكريمة- ترغيبا علي هذا الخير (الإقراض)- عن واقعية شرطيّة من أنكم إن تقرضوا اللّه و تعطوه ممّا عندكم شيئا يضاعفه لكم إن كان حسنا سليما من غير إيذاء و منّة من المقرض علي المستقرض.

و عندنا: إنّ السياق الباحث عن الأموال و الأولاد الحاكم بأنهما فتنة و ان الإنفاق خير، و لا سيما مع الترغيب

الي شحّ النفس، يشخّص ان القرض هذا هو في الأموال بين العباد بعضهم مع بعض لوجه اللّه تعالي و للخير و الإحسان لا لغرض مالي، و ما يقال «1» من أن الذي يقرضونه- في الآية الكريمة- أو يستقرضونه- كما ورد في آية مباركة أخري- هو اللّه تعالي، فيرجع الأمر الي إخلاص العمل للّه تعالي في العبادات حتي يضاعفه أجرا و ثوابا، فان الاستقراض و الإقراض يطلق فيما يكون القطع هذا عن مال ليستمتع به المستقرض الفاقد له، المحتاج إليه.

أما العمل الذي للّه تعالي في إطاعة الواجبات و ترك المحرّمات و جزاء اللّه تعالي و ثوابه- علي ما فصّل في محلّه- فلا يرتبط بباب المقابلة و الأخذ و العطاء أصلا و لا يناسب الباب بوجه، فان من أخلص للّه عملا فقد قرّب نفسه إليه تعالي و استمتع برضاه و استراح في بحبوحات نعمه من جنانه و رضوانه، كل ذلك جار و ماض في قواعد و قوانين خاصة من غير أن يرجع العمل الي اللّه تعالي أو يأخذه فيجازي قبال ذلك، و نتائج الأعمال لا ترجع إلا الي العبد العامل نفسه.

و أما وجه إطلاق إقراض اللّه تعالي و استقراضه علي إقراض عبد عبدا آخر فهو

______________________________

(1)- كما عن الفاضل المقداد (رحمه اللّه) في كنزه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 127

ظاهر، فان الإحسان الي عباد اللّه تعالي لا لنفع ماديّ هو عبادة للّه تعالي اذا كان عن قربة كما هو ظاهر.

و مما ذكرنا يعلم معني باقي الآيات الكريمة الواقعة في سياق بحث الأموال من الزكاة الواجبة أو الصدقات المتطوّعة أو غيرها من أنها راجعة الي ترغيب المتمكّن و حثّه علي إقراض المحتاجين قربة للّه تعالي، المتداول بين عباد اللّه الصالحين

المسمّي بقرض الحسنة لا الربح المحرّم الذي هو: قرض السيئة الربوي، من غير ارتباط باطاعة اللّه تعالي في الأوامر و النواهي، و ثوابه تعالي لعباده كما تري.

الثانية- قوله تعالي:

.. وَ أَقْرِضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً وَ مٰا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّٰهِ … (المزمّل [73] الآية 20)

الأمر لا سيما في سياق الصلاة و الزكاة ظاهر في الوجوب؛ و عندنا يرجع ذلك الوجوب الي القيد و ان القرض لا بدّ و ان يكون حسنا بمعني عرفته آنفا.

الثالثة- قوله تعالي:

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ.

(الحديد [57] الآية 11)

و قوله أيضا:

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ أَضْعٰافاً كَثِيرَةً وَ اللّٰهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. (البقرة [2] الآية 245)

من المعلوم أن استقراض اللّه تعالي و هو الغنيّ الحميد لا يكون إلّا ترغيبا للواجدين بأن يقرضوا الفاقدين قربة للّه تعالي، و هم بعد ما يأخذون أموالهم سيؤجرون من عند اللّه تعالي أجرا حسنا فيضاعف لهم بذلك أموالهم لاستفادتهم منها بوجهين؛ و يؤيّد ذلك آخر الآية الكريمة الثانية من أن اللّه تعالي هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء، فيتمكّن الانسان المتمكّن من رفع حاجة إخوانه و لو بالإقراض،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 128

و يقبض عمّن يشاء؛ فيتراجع الواجد للمال المبسوط له، و يمتحن اللّه تعالي بذلك كليهما من إقراضه (المحتاج) قرضا حسنا بلا إيذاء و منّة متذكّرا أن للّه تعالي جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ، و هو الذي يرزق من يشاء، و الناس هم الفقراء الي اللّه و اللّه هو الغنيّ الحميد، أو إقراضه من إيذاء و منّة علي توان و صعوبة بعد التجاء

المستقرض و التماسه أو مع الربا أحيانا، و كذلك كيفية مراجعة المستقرض من توجّهه الي أن اللّه تعالي هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، و ان صاحب المال من جنود اللّه تعالي و أياديه بلا استقلال أو غفلة عن اللّه تعالي و ذلّة أو كفر أحيانا نعوذ باللّه منه. اللّهم أغننا عن الناس بغناك و لا تبتلنا بالاستقراض و لا سيما من السفلة.. آمّين.

و قد ظهر مما ذكر معني قوله تعالي:

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقٰاتِ وَ أَقْرَضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً يُضٰاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ. (الحديد [57] الآية 18)

الرابعة- قوله تعالي:

وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِليٰ مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 28)

الآية الكريمة واقعة في سياق آيات الربا و لزوم ترك الباقي و عدم أخذه، و ان خلاف ذلك بحكم الحرب مع اللّه تعالي فمن تاب عن ذلك الذنب العظيم ليس له إلا رأس ماله يأخذه إن كان المقترض ذا ميسرة، و نظرة الي ميسرة إن كان ذا عسرة، و التصدّق بابراء ذمّته و إراحته خير له إن كان يعلم أجر الصدقة و الخدمة «1»، و المسألة بالملاك لا تختص بالمورد بل الأمر جار في كل دين و قرض لا بدّ من النظرة الي الميسرة، و الصدقة خير فهي تجعل المدين في راحة.

______________________________

(1)- و لعل ذلك هو الأصل لما هو المتداول بين التجّار و الكسبة من تقسيم الباقي من أموال المفلّس بين الدائنين بعد استثناء ضرورياته في المعيشة بنسبة أقل كما تعلم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 129

نتيجة البحث

الأول: القرض هو جعل مال أو عين في استمتاع المفتقر إليه مؤقّتا حتي يردّه إليه بعد زمان بعينه أو بماليّته أو

قيمته، و هو أمر عقلائي رغّب إليه الشرع المقدّس فانه برّ و إحسان و مستحب و أجره مضاعف.

الثاني: علي المقرض إمهال المقترض المعسر الي يسره، و أفضل منه إبراؤه بالتصدّق عليه فإنّ أجر الصدقة أعظم.

انتهي كتاب القرض و الحمد للّه و يتلوه كتاب العهود و الأيمان إن شاء اللّه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 131

كتاب العهود و الايمان

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 133

العهود و الأيمان

العهد هو تثبيت أمر و تحكيمه، قال تعالي: وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِليٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (طه [20] الآية 115)، و قال أيضا: وَ عَهِدْنٰا إِليٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْعٰاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (البقرة [2] الآية 125).

فاذا تعهّد الانسان أمرا و تقبّله فكأنما أحكمه في ذمّته و حققه في عهدته، و قد أطلق العهد علي كل مبادلة يستلزم عهده الفيض و الإقباض دائرة أو بعد أجل، ثم علي كل ما يقتضي العهدة علي أمر من أداء مال أو إتيان عمل للغير أو للّه تعالي كما في النذر و اليمين، فان النذر تعهّد أيضا علي إتيان أمر ما أو تركه، و اليمين المأخوذ من تصافح الأيدي اليمني لدي تحكيم المعاملات و التعهّدات لإبرامه هو تقبّل أمر ثم تثبيته بذكر اسم اللّه تعالي. و عليه فماهيّة كل من العهد و النذر و اليمين واحدة و هي أن يتخذ العبد في عهدته للّه تعالي بأن يأتي بشي ء راجح ديني أو دنيوي أو بترك مرجوحا كذلك، و يستحكم ذلك بذكر اسم اللّه تعالي فقط دون الآباء و الأولاد و النفس بل دون سائر الأسماء و الأوصاف للّه تعالي تشديدا للاستحكام، فيقول: (للّه عليّ كذا، أو: نذرت للّه كذا،

أو: باللّه لأفعلنّ كذا أو: أترك كذا..) مطلقا أو مشروطا بحصول أمر كشفاء مريض أو قدوم مسافر أو رفع حاجة؛ كل ذلك تقرّبا إليه تعالي بعد تعيين مورد التعهّد نوعا و زمانا، و الإطلاق في الأخير ينصرف الي ما دام العمر.

و مما ذكرنا تعرف شمول العهود جوهريا لإنشاءات أخري قربي كالوقف و السكن و الصدقة و الهبة غير المعوضة و ما شابهها بل يشمل الإيقاعات أيضا فان كل عقد عهد و لا عكس.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 134

ثم المتعهّد لا سيما اذا كان للّه تعالي قد جعل نفسه في خوف من تركه و حنثه، و النذر و هو قسم من العهد مأخوذ من الإنذار و التخويف أن عليه الجبر و التكفير اذا حنث ليستريح من ذنب اقترفه أو عهد نقضه، و الأمر كذلك شرعا، و قد جعل اللّه تعالي لحنث العهد بأقسامه الثلاثة كفّارة كما سيأتي بحثه إن شاء اللّه.

و كيف كان ففي المقام آيات:

الأولي- قوله تعالي:

إِذْ قٰالَتِ امْرَأَتُ عِمْرٰانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مٰا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* فَلَمّٰا وَضَعَتْهٰا قٰالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهٰا أُنْثيٰ وَ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثيٰ وَ إِنِّي سَمَّيْتُهٰا مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُهٰا بِكَ وَ ذُرِّيَّتَهٰا مِنَ الشَّيْطٰانِ الرَّجِيمِ* فَتَقَبَّلَهٰا رَبُّهٰا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَهٰا نَبٰاتاً حَسَناً …

(آل عمران [3] الآيات 35- 37)

الآية الكريمة- كما تري- تدلّ علي أصل مشروعية النذر لدي الأمم السالفة و الشرائع السابقة بحكايتها عن نذر امرأة عمران ما في بطنها محررا لبيت المقدس و خدمته له، و قبول اللّه تعالي نذرها حتي مع عدم التناسب الكامل لكونها أنثي، و ليس الذكر كالأنثي، فان أصل الجواز و

المشروعية كان مفروغا عنه و لم يردع عنه الشارع المقدّس بل انه أمضاه بالعمل و أمر بالوفاء به كما في الآيات الكريمة التالية، و هي:

الثانية- قوله تعالي:

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخٰافُونَ يَوْماً كٰانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَ يُطْعِمُونَ الطَّعٰامَ عَليٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً. (الدهر [76] الآية 7- 8)

تعطي الآية الكريمة أنهم (عليهم السّلام) كانوا ينذرون و يوفون بنذورهم، و ان الوفاء في المحبوبية علي حدّ يخاف من تركه العقاب يوم القيامة، فارغا عن أصل الجواز،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 135

و لعلّها تشعر بوجوب الوفاء، فان المباح و الراجح لا يخاف علي تركه، و قد مدحهم اللّه تعالي عليه و علي الإنفاق و التصدّق علي حبّ اللّه تعالي دون رئاء الناس لا يريدون بذلك جزاء و لا شكورا.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُهُ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ. (البقرة [2] الآية 270)

الآية المباركة بصراحتها تدلّ علي أن اللّه تعالي يعلم الإنفاق العلني و الخفي، و النذور التي تنعقد بين الانسان و ربه، كما انه يعلم الوفاء و الحنث و كل عمل صالح، و كذلك يعلم الإنفاقات التي تكون رئاء الناس أو إرادة الخير و الشكور، و النذور التي تحنثونها، فلا أجر و لا ثواب فيها بل هي عقاب لو لم تنجبر بكفّارة، فمن ترك الوفاء و الكفّارة فقد ظلم نفسه وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ.

هذا، و لكن الآية الكريمة لا ترتبط بمقام التشريع و بيان مشروعية النذر و جوازه، أو استحباب التصدّق و رجحانه، و ان كانت لا تخلو عن إشعار لزوم الوفاء، و ان تاركه ظالم، و أما أن ذلك علي حدّ الرجحان أو الوجوب فلا.

نعم إن العهد و ماهيّته بنفسه يدعو الي الوفاء و يقتضيه علي حدّ يعدّ من المكارم لدي العرف و العقلاء و كذلك الشرع المقدّس، و نقضه من الرذائل و النواقص لديهم و لديه، و لقد مدح اللّه تعالي به أهل بيت العصمة و الطهارة آل رسول اللّه (عليه و عليهم سلام اللّه).

و الذي يسهل الخطب صراحة الآيات الكريمة و الأمر فيها بالوفاء- كما تري-.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ … (الحج [22] الآية 29)

الأمر بالوفاء بالنذر و العمل به في سياق الطواف الواجب يعطي الوجوب حتي في غير أيام الحج، فان المورد لا يخصص مع ما عرفت من شمول قوله تعالي:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ في كل عهد.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 136

الخامسة- قوله تعالي:

.. وَ بِعَهْدِ اللّٰهِ أَوْفُوا ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. (الانعام [6] الآية 152) الأمر أيضا في سياق النهي عن المحرّمات القطعية مثل الشرك باللّه تعالي و قتل الأولاد خشية الإملاق، بل مطلق قتل النفس، بل الفواحش علي الإطلاق أيضا- ما ظهر منها و ما بطن، و في سياق الأمر أيضا بأمور من إيفاء الكيل و العدل في القول؛ و هذا يعطي الوجوب كالأمر في قوله تعالي:.. وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا (الإسراء [17] الآية 34)، الواقع في سياق عدّة من الواجبات و المحرّمات، و المتعلّق في الآيتين مطلق العهد مع اللّه تعالي، فيشمل العهود الثلاثة، بل الوقف و السكن و الصدقة و الهبة غير المعوضة للّه تعالي، بل مع الناس كالعهود في معاملاتهم و معاشراتهم. و عندنا لا يبعد شمول الأحكام المذكورة قبله و بعده من الحلال و الحرام بل مطلق الأحكام، فانها عهود من اللّه تعالي علي

عباده، و هم قد تعهّدوا طاعته و عبوديته في أوامره و نواهيه لما كانوا له عبادا و له مسلمين، فقالوا:

بلي أنت ربّنا و نحن لك مسلمون، و هذا هو المناسب لذكر الوفاء بالعهد بعد نقل عدّة من الأحكام، و قد أشرنا من قبل الي أن ذلك بنفسه هو المناسب و الرابط بين قوله تعالي: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و قوله تعالي: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ.

و أما وجوه الدلالة فظاهرة، فان الأمر بالوفاء و ان المكلف مسئول عنه، مع انه لا يسأل عن غير الواجب و الحرام، مؤاخذة صريحة في الوجوب، مثل وصيّة اللّه تعالي بعباده خلال الأوامر و النواهي.

السادسة- قوله تعالي بعد الأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربي و النهي عن الفحشاء و المنكر و البغي:

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّٰهِ إِذٰا عٰاهَدْتُمْ وَ لٰا تَنْقُضُوا الْأَيْمٰانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهٰا وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللّٰهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا تَفْعَلُونَ* وَ لٰا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهٰا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكٰاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمٰانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ. (النحل [16] الآية 191- 192)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 137

الآية الكريمة تأمر بالوفاء بعهد اللّه تعالي و تنهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها بذكر اسم اللّه تعالي، و لتشديد الأمر و بيان عظمته، توضّح الآية الكريمة الحال بقوله تعالي: وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللّٰهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا، و هو يعلم ما تفعلون، وفاء و حنثا، فلا تكونوا كالّتي نقضت غزلها من بعد قوّة. و قد يستدل بذكر لفظ الجلالة علي عدم انعقاد العهود الثلاثة إلّا به، و حينئذ فمن لم يف بعهد اللّه و نقض حكما من أحكامه فكأنه نقض غزل الأيمان القوي بعد ما أبرمه و قوّاه بالامتثال و الإطاعة فيه و في غيره

من الأحكام، و مع ذلك تؤكّد الأمر الآية التالية بأن الحانث الناقض ليمينه اتّخذ أمره دخلا و قد نهي عنه.

السابعة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَتَّخِذُوا أَيْمٰانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهٰا وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِمٰا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ لَكُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ* وَ لٰا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللّٰهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّمٰا عِنْدَ اللّٰهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. (النمل [16] الآية 94- 95)

تنهي الآية الكريمة عن اتخاذ الأيمان دخلا بالخدعة، فانه مأخوذ من الدخول في نسب الغير حيلة، و اللحوق بقبيلة غيلة. فان قدم الايمان و عرق الاسلام و التوحيد تزل بالخدعة في اليمين، و الحيلة مع الحق بعد الثبوت، فينتهي الي العذاب و ذوق السوء، فان ذلك صدّ عن سبيل اللّه، و شراء بعهد اللّه ثمنا قليلا، مع ان ما عند اللّه من أثر الوفاء و ثمر الإطاعة و مراعاة الحدود الشرعية خير لكم مما تطلبونه عن طريق النقض و الخدعة؛ و عليه فلا تختص الآية الكريمة باليمين الغموس و الكذب كونها تغمس صاحبها في النار، بل ان الكذب في اليمين قسم منه.

و كيف كان فالخدعة و الدخل في اليمين بالكذب أو العمل بخلافه تأويلا منهيّ عنه و هو حرام، و مزلّ للأقدام، و الصدق و الوفاء لازم و واجب عقلا، و لا تلازم شرعا، فان الحكم دائر مدار اعتباره.

نعم في المقام: الأمر متعلّق بالوفاء بالعهد، و النهي متعلّق بنقض الأيمان،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 138

و الظاهر أنهما واحد بلسانين، و الأمر بما نهي عن تركه، و النهي عن ترك ما أمر بفعله، فتدلّ زائدا علي وجوب الوفاء علي أن العهد و اليمين واحد، كما أنهما من النذر واحد ماهيّة، و إن كان

الأخير أكثر مصاديقه مشروطا و الأوليين مطلقا حسب الوقوع الخارجي.

و لا يصغي الي ما أشرنا إليه من ان المأمور به غير المنهيّ عنه عنوانا و لسانا، و كذلك المنهيّ عنه غير المأمور به كذلك، فان التأكيد و التثبيت في لسان الآية الكريمة يتمّ الأمر كما هو ظاهر.

نقض العهد

الثامنة- قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مِيثٰاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّٰارِ. (الرعد [13] الآية 25)

صراحة الآية الكريمة: إن الذين ينقضون عهد اللّه فيحنثونه- سواء كان من العهود الثلاثة أو من غيرها- لهم اللعنة و لهم سوء الدار، و ذلك لا يكون إلّا جزاء وفاقا لارتكاب محرّم، و ترك واجب، و لا سيما بعد عدّ ذلك في سياق الذين يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، المحرّم قطعا، فتدلّ علي وجوب الوفاء بالملازمة و إن كان اعتبار ذلك غير حرمة النقض. و قد لعن اللّه تعالي بني إسرائيل أيضا بنقضهم أيمانهم، فجعل قلوبهم قاسية. و لا يكون البعد عن رحمة اللّه تعالي الموجب لقسوة القلب إلّا لأثر العصيان و ارتكاب المحرّم، قال تعالي:

فَبِمٰا نَقْضِهِمْ مِيثٰاقَهُمْ لَعَنّٰاهُمْ وَ جَعَلْنٰا قُلُوبَهُمْ قٰاسِيَةً. (المائدة [5] الآية 13)

التاسعة- قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ وَ أَيْمٰانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولٰئِكَ لٰا خَلٰاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لٰا يُكَلِّمُهُمُ اللّٰهُ وَ لٰا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وَ لٰا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 139

أَلِيمٌ. (آل عمران [3] الآية 77)

من المعلوم ان ظاهر الاشتراء بعهد اللّه ثمنا قليلا حنثه و تخلّفه بشي ء قليل، و إطلاق العهد يشمل المبحوث عنه حتي النذر،

و الحكم علي المتخلّف الحانث بذلك العذاب الأليم صريح في الحرمة المستلزم لوجوب الوفاء، و إن كان كل واحد منهما غير الآخر في الاعتبار، و لا ينصرف الي الأصول الاعتقادية من التوحيد الي الشرك مثلا كما تؤيده التزكية و أن اللّه تعالي لا يزكّيهم مع ذكر الايمان بعد العهد الموجب للظهور في العهود الثلاثة و ما يقرّبها.

و يؤيّد ما ذكر الآيات المباركة الصريحة بهذا الشأن التي عدّت الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ وَ لٰا يَنْقُضُونَ الْمِيثٰاقَ، من أولي الألباب، الَّذِينَ يَصِلُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخٰافُونَ سُوءَ الْحِسٰابِ، و جعلتهم مع الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغٰاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَي الدّٰارِ جَنّٰاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهٰا (الرعد [13] الآيات 20- 23).

و كذلك الآيات الكريمة التي عدّت الوفاء بالعهد و مراعاته من أوصاف المؤمنين المفلحين الذين هم في جنّات مكرمون في قوله تعالي: وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمٰانٰاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رٰاعُونَ (المؤمنون [33] الآية 9) و (المعارج [70] الآية 32)، و جعلت الموفون بعهدهم اذا عاهدوا من أهل البرّ أيضا … وَ لٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ … وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذٰا عٰاهَدُوا … (البقرة [2] الآية 177).

و بعد ذلك كلّه فلا افتقار لإثبات الوجوب الي استدلال مقحم بقوله تعالي:

وَ قٰالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّٰارُ إِلّٰا أَيّٰاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّٰهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّٰهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَي اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 80)

بتقريب أنه تعالي جعل قبال دعواهم اتخاذ العهد، القول بغير علم، و ترتّب علي الأول أنه تعالي لن يخلف عهده علي الإطلاق من غير تقييد

و تقسيم، و ذلك و إن كان إخبارا عن حقيقة و هو أن اللّه تعالي لن يخلف العهد و الميعاد، إلّا انه يدلّ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 140

علي حرمة التخلّف لعدم التقييد.

و قد عرفت وجوب الوفاء و حرمة التخلّف بأدلة أصرح، و العجب كلّه- بعد ما عرفت- من عدم وجوب الوفاء بالوعد و هو عهد مع ثبوت الأهم- أعاذنا اللّه من القول بغير علم.

شروط العهود و كفارة الحنث

ثم انك تعلم أن وجوب الوفاء و حرمة النقض و الحنث لا يكون إلا بعد تحقق العقد و العهد و اليمين علي متعلّق راجح عن إرادة و قصد، فانه مع عدم الرجحان لا ينعقد رأسا، فلا يتعلّق بترك المباح تضييقا علي النفس من دون غرض عقلائي، كما لا ينعقد اذا لم يكن عن صميم القلب و مركز الإرادة الجدّية، بأن كان عن هزل أو لقلقة لسان أو عن غضب و طغيان، فانه لا وقع له و لا أثر، وفاء و حنثا، بل قد يجب حلّه و لا حنث فيه، ففي الأول (اشتراط الرجحان)، قال تعالي:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مٰا أَحَلَّ اللّٰهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضٰاتَ أَزْوٰاجِكَ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* قَدْ فَرَضَ اللّٰهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمٰانِكُمْ وَ اللّٰهُ مَوْلٰاكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.

(التحريم [66] الآية 2- 3)

فقد أوجب اللّه تعالي علي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) تحليل يمينه و فكّه عن عهدته بلا حنث و تخلّف لمرجوحيّة المتعلّق و هو ابتغاء مرضاة الأزواج بالنسبة الي نفسه الشريفة، و ذلك إكرام من اللّه تعالي لرسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) توسعة عليه، و رفعا لكل مضيقة عنه، و إلا فأصل الامتناع و التحرّز عن مباشرة بعض الأزواج

فيما دون حقه ابتغاء مرضاة البعض الآخر منهنّ مع حفظ حقوقهما غير مرجوح لا بأس به، فلا يتوهّم أنه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أقسم علي مرجوح لا عن علم، و هو و أهل بيته المعصومون (عليهم السّلام) يعلمون كل شي ء بعلم اللّه، و هم النور الواحد الذي كان من اللّه تعالي حيث لم يكن معه أحد لا نبيّ مرسل و لا ملك مقرّب، فخلق اللّه الأشياء كلّها ثم أنهي علم ذلك كلّه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 141

إليهم «1».

و من المعلوم انه اذا كان حلّ العهد واجبا له (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لمرجوحية بالنسبة إليه، فكيف اذا كان الأمر مرجوحا في نفسه، فانه لا ينعقد رأسا مع أنه غير عقلائي بعد كفاية مرجوحيّة الشي ء في تركه.

و أما اشتراط الجدّ و الإرادة العقلائية الواقعية مع وضوح لزوم ذلك، كما في كل عقد بل كل أمر عقلائي فيدلّ عليه قوله تعالي:

لٰا يُؤٰاخِذُكُمُ اللّٰهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمٰانِكُمْ وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 225)

تصرّح الآية الكريمة بأن اللّه تعالي لا يؤاخذ عباده بترك الوفاء و العمل بالأيمان اللاغية، فان كل أمر و عقد يؤخذ به و يترتّب عليه أثر اذا كان عن قصد و عمد و إرادة و تصميم في القلب، فيشترط في التحقيق و الانعقاد ذلك حتي تترتّب عليه آثاره.

و كذلك يدلّ عليه ما ورد في ذيل الآية الآتية من التكفير باحدي الخصال الثلاث، كما يأتي بيانه (المائدة [5] الآية 89)

ثم بعد التحقيق و الانعقاد و وجوب الوفاء، فان عمل ما بعهدته و وفي به فهو و لو بأخفّ مصاديقه و أقلّها، و إلا فان

تخلّف و حنث فعليه الكفّارة و الجبران، قال تعالي في الأول أي في تحقق العمل و الوفاء بأقل المصاديق الموجب للصدق تعليما لعبده أيّوب (علي نبيّنا و آله و عليه السلام):

وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لٰا تَحْنَثْ إِنّٰا وَجَدْنٰاهُ صٰابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّٰابٌ. (ص [38] الآية 44)

و الآيات تعني يمينه و قسمه علي أن يضرب زوجته مائة ضربة جزاء لها بنظره، و القصة مذكورة و مشهورة في كتب التفاسير، و بعد انكشاف الحق له- أي بعد

______________________________

(1)- مأخوذ من رواية شريفة ذكرها ثقة الاسلام الكليني (رضوان اللّه عليه) في كتابه الشريف: (الكافي) في باب ميلاد النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 142

قسمه و يمينه- فقد أمر بالوفاء به بأن يأخذ ضغثا و يضرب به امرأته مرّة واحدة حتي يخرج هو عن يمينه و قسمه المذكور، من غير حنث لصدق المائة مرّة فيه بتعدد قطعاته و أغصانه.

و قال تعالي في الثاني أي في وجوب الجبران و التكفير لو حنث:

لٰا يُؤٰاخِذُكُمُ اللّٰهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمٰانِكُمْ وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمٰانَ فَكَفّٰارَتُهُ إِطْعٰامُ عَشَرَةِ مَسٰاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مٰا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ ثَلٰاثَةِ أَيّٰامٍ ذٰلِكَ كَفّٰارَةُ أَيْمٰانِكُمْ إِذٰا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمٰانَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللّٰهُ لَكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. (المائدة [5] الآية 89)

و الآية الكريمة- كما تراها- بعد تعيين الموضوع و أنه الأيمان و العهود المنعقدة حقيقة من غير لغو و هزل.. بعد هذا تبيّن الآية الكريمة جبر المتخلّف و كفّارة حنثه و أنه إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم بأوسط الأطعمة أو الكسوة المتعارفة التي تطعمون و تكسون منها أهليكم أو تحرير

رقبة، و إن لم يتمكّن من ذلك و لم يجد ما ينفق في سبيل ذلك فعليه صيام ثلاثة أيام.

و بعبارة أخري: علي الواجد إحدي الأمور تخييرا: الإطعام أو الإكساء أو تحرير رقبة، و علي الفاقد صيام ثلاثة أيام تعيينا، و أخيرا توصي الآية الكريمة المتعهّد بالتحفّظ علي عهده و الوفاء به مهما أمكن لئلا يلزمه التكفير و الجبران شكرا لنعمة اللّه تعالي و هي القدرة علي الوفاء و التمكّن من الإطاعة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 143

خاتمة المطاف

قال تعالي:

وَ لٰا تَجْعَلُوا اللّٰهَ عُرْضَةً لِأَيْمٰانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النّٰاسِ وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 224)

قد ذكرنا من قبل ان العهود الثلاثة أي العهد الخاص و النذر و اليمين لا تنعقد ما لم تكن مؤكّدة بذكر اسم اللّه تعالي، و لا تكفي بالوصف بل لا تنعقد بغير اسمه المطلق اسم الجلالة «اللّه» من الأسماء الحسني، و لكن الأدب الاسلامي يقتضي ترك ذلك مهما أمكن تعظيما له تعالي و تفخيما للفظ الجلالة، فلا تجعلوا اللّه عرضة للأيمان في كل أمر حقير أو خطير، و لا يقسم باللّه تعالي في كل يوم مرارا و أعشارا توهّما أن ذلك برّ و تقوي أو إصلاح بين الناس إلا في مهام الأمور، بل ان أصل العهد و النذر يكتفي بهما بتصميم و عزم و بقوّة الإرادة و التسلّط علي النفس إلا في المهام.

و ما يقال من ان النذر عبادة لفظية لا يكتفي بها بالقصد، لا يخلو من تسامح، فانه كأخويه اذا تعلّق بالعبادة، فالوفاء و العمل بمقتضاه عبادة لا مطلقا، نعم عدم انعقاده، بنفس القصد من دون اللفظ تمام.

نتيجة البحث

الأول: العهود الثلاثة هي: النذر و العهد و اليمين، واحدة ماهيّتها.

الثاني: لا بدّ في تحقق تلك العهود من الرجحان- في الجملة- دينيا أو دنيويا، و من الجد، فلا تنعقد في المرجوح أو بالهزل أو حال الغضب.

الثالث: لا بدّ في الوقوع من اللفظ و العقد في العهود الثلاثة إيقاعا بلفظ الجلالة، فلا تنعقد بنفس القصد و النيّة أو بذكر سائر الأسماء و الصفات.

الرابع: يجب الوفاء بتلك العهود الثلاثة و يحرم الحنث تكليفا.

الخامس: يكفي في الوفاء الإتيان بأقلّ المصاديق لعنوان المتعلّق كما في كل

فقه القرآن (لليزدي)،

ج 3، ص: 144

امتثال أمر أو نهي تعلّق بعنوان و ماهيّته علي الإطلاق.

السادس: الأدب الاسلامي يحكم بترك اليمين ما أمكن، و لا يجعل اللّه عرضة للأيمان و لا سيما الكذب الغموس الذي يغمس مقترفه في النار.

السابع: كفّارة الحنث علي الواجد إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة تخييرا، و علي الفاقد صيام ثلاثة أيام.

الي هنا تمّ- و الحمد للّه- كتاب العهود و الأيمان، كما تمّ الجزء الثالث حسب تجزيئنا، و يتلوه الجزء الرابع و هو آخر الأجزاء مبدوءا بكتاب المحرّمات إن شاء اللّه تعالي «1».

______________________________

(1)- و اليوم هو السابع عشر من شهر شعبان المعظّم سنة أربع و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة علي مهاجرها ألف تحيّة، و كنت مقصيا في منطقة (رودبار) مع جمع من الأفاضل الذين هم من بلاد شتّي.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.